محمد فتحي النادي
فی القرآن و الروایات
لقد سمى الله سورةً في القرآن باسم سورة (الروم)، ولم يسمِ سورة باسم سورة (فارس) أو (الهند) أو (الصين....).
وقد صدّر الله -تعالى- بهذه اللفظة السورة فقال: ﴿الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ [الروم: 1-2]، وقد وجدنا أن القرآن الكريم لم يجعل من الضرورة أن يتصدر اسم السورة بدايتها؛ فسورة البقرة لم تذكر فيها قصة البقرة إلا في الربع الثالث، وكذلك الحال في (آل عمران) فلم يأت على ذكرهم إلا بعد نيف وثلاثين آية.... إلخ.
ورغم أن الروم هم المغلوبون إلا أن الله ذكرهم ولم يذكر الغالبين، فتحاشى أن يذكر فارس؛ فقد كان من الممكن أن يذكر طرفي الصراع فيقول: (غَلبت فارسٌ الرومَ)، ولكنه ذكر المغلوب ولم يذكر الغالب لحكمة أرادها -جلّ جلاله.
وعندما أراد المشركون أن يتهموا رسول الله بأنه يتلقى القرآن عن البشر، وأنه ليس كلام الله، اتهموه بأنه يتلقاه عن حداد رومي نصراني كان يسكن مكّة([1])، وقد خلّد القرآن تلك الحادثة فقال -تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل: 103].
وإذا كان الشرق هو مهد الأديان فإن أوروبا والغرب هما حاضنتا الديانتين اليهودية والنصرانية، فهاتان الرسالتان تمددتا غربًا، ولم تكن البيئة الشرقية المليئة بالفلسفات والأديان الوضعية قابلة لتلك الرسالات السماوية؛ فما زالت الهند والصين وغيرهما هم من يحتضنون الديانات الشرقية الوثنية (البوذية... المجوسية.. إلخ).
وجعل الغرب نفسه حاميًا للنصرانية في العالم، سامحًا لنفسه بالتدخل في شئون الدول لحماية النصرانية.
ويبدو أن حالة التأثير والتأثر بين عالمنا والغرب قديم قدم التاريخ.... ممتد -أيضًا- بامتداد التاريخ...
ففارس تلك الامبراطورية العظيمة التي كثرت مناوشاتها مع الروم لم تصمد كثيرًا أمام جحافل الجيوش الإسلامية وزالت من على الوجود، ودخل المسلمون المدائن... ولم تقم لهم قائمة بعد ذلك، ولعل ذلك كان بسبب دعاء رسول الله عليهم حينما بعث برسالة لكسرى المجوسي يدعوه فيها إلى الإسلام فمزقها فقال: "اللهم مزِّق ملكه"([2]).
والعكس من ذلك كان مع هرقل قيصر الروم النصراني، قال الشافعي: "وحفظنا أن قيصر أكرم كتاب النبي ، ووضعه في مسك، فقال النبي: (ثبت ملكه)"([3])...
فی التاریخ
نعم... ثبتت امبراطورية الرومان بعد أن تولت عن عالمنا راغمة؛ حيث أخرجتها جيوش المسلمين، بأن ظلت صامدة في أوروبا قرونًا طويلة رغم انقسامها إلى دولتين: إحداهما عاصمتها بيزنطة (القسطنطينية)، والأخرى عاصمتها (روما)....
والحروب بيننا وبينهم دائرة على أشدها إن لم تكن بالسيف فبالفكر والعمل الحضاري...
فتارة يغزوننا كما حدث إبان الحروب الصليبية والاحتلال في مطلع القرن المنصرم...
والدوافع لذلك مختلفة؛ حيث تكون المصالح الاقتصادية هي الغاية، أو دعوى حماية المقدسات النصرانية، أو تكوين الامبراطوريات الاستعمارية وغطرسة القوة.
أو نغزوهم نحن كما فعل العثمانيون عندما أسقطوا الامبراطورية الشرقية (البيزنطية)، وذلك بفتحهم القسطنطينية عاصمة الامبراطورية على يد السلطان محمد الفاتح سنة 1453م، وتهديدهم المستمر لأوروبا حتى وصلت جيوشهم أسوار فيينا.
ثم بدأ الغرب في تنظيم صفوفهم وإحكام مؤامراتهم لإسقاط الخلافة العثمانية، وتحقق لهم ذلك في سنة 1924م....
ثم إن النبوءات المحمدية تبشِّر المسلمين بأنهم ستطأ أقدامهم أرض الفاتيكان (دولة البابا)، وذلك بفتحهم روما، فقد سئل رسول الله: أيُّ المدينتين تفتح أولاً، يعني: القسطنطينية أو الرومية؟ فقال: "مدينة هرقل أولاً"، يعني: القسطنطينية([4]).
وفتْح روما الذي لم يحدث بعدُ يعني استمرار الصراع وتصاعده.
حتى إن الملاحم الكبرى قبيل الساعة سيكون بنو الأصفر (الغرب) ضالعين فيها، وسيكون عدوانهم وبغيهم وخيانتهم للمسلمين أمرًا ظاهرًا، فقد قال رسول الله لعَوْف بْن مَالِكٍ: "اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ مُوتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ([5]) الْغَنَمِ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا، ثُمَّ فِتْنَةٌ لاَ يَبْقَى بَيْتٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلاَّ دَخَلَتْهُ، ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأَصْفَرِ فَيَغْدِرُونَ، فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً([6])، تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا"([7])...
هذه العلاقة تحتاج إلى دراسة وتعمق وفهم....
وتبقى الأسئلة مطروحة:
لماذا يهتم بنا الغرب أكثر من بقية أماكن العالم الأخرى...؟
ولماذا -أيضًا- ننشغل نحن بالغرب أكثر من انشغالنا بالحضارات الشرقية المجاورة لنا...؟
لماذا الصراع بيننا محتدم أبدًا... ولا يكاد يخفت حتى تشتعل ناره من جديد؟
([1]) انظر: تفسير الطبري، (17/298).
([2]) طبقات ابن سعد، (1/260)، وقد ذكرها الألباني في "السلسلة الصحيحة"، (3/414).
([3]) السنن الكبرى للبيهقي، (9/177).
([4]) أخرجه الحاكم في "المستدرك"، (4/553) عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
([5]) "القُعَاصُ: داءٌ يأْخذ في الصَّدْر كأَنه يَكْسِر العُنُق، والقُعَاصُ: داءٌ يأْخذ الدوابّ فيَسِيل من أُنوفِها شيءٌ، والقُعَاصُ: داء يأْخذ الغنم لا يُلْبِثُها أَن تموتَ" [لسان العرب، مادة (قعص)].
([6]) "الغايَة: الراية. يقال: غَيَّيتُ غايَةٌ وأغيَيْتُ: إذا نصبتها" [الصحاح، (6/2451)].
([7]) أخرجه البخاري في "الجزية"، باب: "مَا يُحْذَرُ مِنَ الْغَدْرِ ..."، ح(3176).