الإخوان والكنيسة...قراءة في تفاصيل التقارب والتأصيل الفقهي
القسم الاول: منذ التأسیس حتی ثورة ینایر
عبدالحميد قطب
مقدمة
لقد ظل فكر جماعة الإخوان المسلمين حريصا علي التوفيق بين النظرة الشرعية للأهل الذمة باعتبار نصارى مصر وأتباع الكنيسة المصرية منهم وبين النظرة الوطنية لمن يشاركونهم العيش والحياة علي أرض الوطن .
وضح ذلك منذ التأسيس الأول لحركة الإخوان المسلمين علي الشيخ حسن البنا رحمه الله في عام 1928 فلم تكن النظرة الصدامية مع نصاري مصر او الكنيسة كمحرك لهم وممثل تتحدث بلسانهم في الحسبان ولا في أدبيات فكر الإخوان المسلمين وطالما كانت في حدود التعاون الوطني والاحترام العقائدي المتبادل ومتي ساعد ذلك علي نهضة الوطن وبناء الدولة التي يعيش الجميع علي أرضها.
وتؤكد ذلك مواقف جماعة الإخوان المسلمين عبر كل المراحل التي مرت بها الجماعة سواء فترات الحرية والنشاط الواسع في العمل العام في ربوع مصر او حتي أثناء فترات المحنة والتضييق التي مرت بها الجماعة علي أن الحديث عن هذه العلاقة بشكل شامل ودقيق لابد أن يقسم الي مراحل حسب الظروف التي مرت بها الجماعة وأيضا الي درجات الوضوح او الغموض في هذه النظرة للتصاري في مصر ففي بعض الاحايين كانت التعبير عنها من قبل رموز جماعة الإخوان المسلمين ربما يكون حادا او بعيدا عن النظرة التوافقية التي سبق الإشارة اليها بين الحكم الشرعي والشراكة الوطنية .
لكن يظل القاسم المشترك في جميع المراحل وعبر تاريخ الجماعة بمختلف ظروفه بين المنحة والمحنة لا يمكن إلصاق تهمة حرص الإخوان المسلمين علي التصادمية مع نصاري مصر من باب الحق الشرعي كاهل ذمة ومن باب الوطنية وضرورة العمل معا لبناء الأمة التي نحن جميعا ابناؤها .
نظرة الفكر الإخواني الي النصارى منذ نشأة الجماعة حتي عام 1952
كان الإمام حسن البنا رحمه الله مؤسس جماعة الإخوان المسلمين يملك من الفطنة والذكاء في المعاملة مع مختلف شرائح وتيارات مصر بما يكسبه القبول له والإقبال علي التعامل معه باريحية دون ريبة او نفور حتي وإن كانت الدولة تضيق عليه أحيانا او تغض الطرف عن اتساع نشاط جماعته أحيانا أخرى ومن هذا المنطلق كان المؤسس البنا رحمه الله يدعو للسماحة وتشجيع التعاون الوطني مع نصاري مصر وقيادات الكنيسة في إطار العمل الوطني العام والمصلحة الوطنية العليا يتضح ذلك في كثير من المواقف والأحداث وتؤكده المراسلات المتبادلة بين البنا ورجال الكنيسة المصرية البطريق يؤانس والبطريرك يوساب الثاني ورئيس المجلس الملي وحتي الرموز السياسية من النصارى المصريين .
فليس هناك من الأحداث التي وقعت بحق الكنيسة او رعاياها في مصر شيئ يستطيع أحد اتهام الإخوان بتدبيره او المشاركة فيه حتي مع نشأة التنظيم الخاص ليس هناك ما يؤكد انه كان من ضمن أهدافه استهداف الكنيسة او النصاري بأعمال عدائية وحتي الاغتيالات السياسية التي نسبت للإخوان لم يكن السياسيين النصارى مستهدفين فيها لغرض شرعي او وطني ، فاغتيال النقراشي باشا رئيس وزراء مصر في ديسمبر1948 او اغتيال القاضي احمد الخازندار في مارس 1948 لاعلاقة للكنيسة او رعاياها في ذلك ، وحتي حادث الاعتداء علي عدد من النصارى في السويس وقتلهم وتعليقهم في خطاطيف وحرق كنيسة للنصاري بالسويس ، وذلك في7يناير1952لم تثبت التحقيقات اي يد للإخوان فيه، في الوقت الذي كان تضييق الحكومة والملك عليهم شديدا والذي استمر بعد اغتيال الإمام البنا 1949وحتي قيام ثورة يوليو1952كما ان رسائل البنا وقيادات النصارى والكنيسة كانت علي أعلي درجات الحس الوطني والاحترام المتبادل .
فهذه رسالة من البنا الي بطريرك الكنيسة يؤانس يثني فيها البنا علي مساعدات الكنيسة للأحباش حيث كانت الكنيسة الأرثوذكسية في اثيوبيا مازالت تابعة للكنيسة المصرية آنذاك ، ويدعوه البنا الي مساهمة الكنيسة والتعاون لمساعدة الفلسطينيين أيضا لأن فلسطين وطن للمسلمين والمسيحيين معا واليهود في جرائمهم يقتلون الطرفين. ويذكر البنا البطريرك بغبطتكم تعبيرا عن التقدير.
كذلك رسالة الإمام البنا الي الانبا يوساب الثاني بطريرك الكنيسة المصريةالارثوزكسية بينما كان الإمام البنا مريضا وقد أثاره الحديث حول العلاقة بين عنصري الأمة في مصر ،فيقول في رسالته، اكتب الي غبطتكم و قد ألم بي المرض حيث اذهلني ما يقال حول وحدة عنصري الأمة المصرية تلك الوحدة التي فرضتها الأديان السماوية وتقديمها العاطفة الوطنية والمصالح القومية التي لا تستطيع آية أحداث ان تؤثر فيها، ويختتم البنا رسالته بالدعوة لإعلاء العمل الوطني وقيم الأديان السماوية ويوقع باسمه بتاريخ 17جمادي الأولي 1366.و19أبريل 1947كذلك رسالة البنا الي ابراهيم فهمي المنياوي رئيس المجلس الملي بعد دعوته لوحدة الأمة في جريدة الاهرام حيث يؤكد له البنا ان المسلمين والمسيحيين نسيجا لا يمكن تمزيقه او النيل منه ،بينما يرد عليه رئيس المجلس الملي بلغة مماثلة تحمل الاعلاء والتقدير لرؤية الإمام البنا ويؤكد له بقوله فضيلة المرشد حضرة صاحب الفضيلة حسن البنا المرشد العام للإخوان ، وصلني كتابكم ومن الحق أن نقول أن الأمة عنصر واحد لا عنصرين...الخ.
كما ان اللجنة السياسية التي كونها البنا كانت تضم عددا من المسيحيين وقد كان ممثل البنا في انتخابات عام1948في سانت كاترين مسيحيا يدعي خريستو وقد فاز البنا بنسبة 100%في هذه اللجنة الوحيدة دون غيرها .
ولا يمكن أن ننسي أن جنازة الإمام البناعقب اغتياله والتي أصر الأمن علي دفنه سرا بدون مشبعين وقد أصر السياسي الوفدي الكبير مكرم عبيد باشا علي المشاركة فيها رغم كل ضغوطات الملك والحكومة .
نظرة الفكر الإخواني الي النصارى من عام 1952 حتی رحیل عبدالناصر
مثلت هذه الفترة محنة كبري للإخوان بعد اتهامهم بمحاولة اغتيال جمال عبد الناصر في حادث المنشية الشهيرعام1954حيث اتخذها عبدالناصر ذريعة لسحق الجماعة ووقف نشاطها وحلها وأبعادها عن أي مشاركة سياسية او اجتماعية وتكرر التنكيل بالجماعة عام 1965 بين السجن والاعتقالات والمطاردات والحظرالتام.
لذلك لم تكن هذه المرحلة موضحة لصورة العلاقة بين الإخوان والكنيسة وأن جاز أن نقول انه لا يمكن ادانة الإخوان بأعمال عدائية خلال حكم عبد الناصر ربما قد تفسر من باب الانتقام لما يفعل بهم من النظام او حتي لصناعة قلاقل تؤثر علي استقرار نظام عبد الناصر وهو ما لم يحدث علي آية حال .
مرحلة السبعينيات. .وانفتاح السادات نحو الإخوان
مثلت هذه المرحلة إعادة التأسيس لجماعة الإخوان المسلمين وأيضا كانت بمثابة تطوير لفكر الجماعة، ووضوح الدور الإصلاحي ودعمه علي حساب أي صدام مجتمعي مع أي تيار او شريحة في مصر،و ربما ألقت السجون ومحنة الستينيات علي الإخوان بظلالها ، فلا مكان للجناح الخاص المسلح والدعوة للنشاط الديني الدعوي والسياسي والنقابي والاجتماعي ، منعا للعودة للوراء ، ومن هذه المفاهيم كانت نظرة الإخوان للمسيحيين والكنيسة في مصر ، رغم صعود البطريرك الجديد الأنبا شنودة بكل ما يحمله من أفكار لتثوير الكنيسة والنصارى ونظرته الندية للدولة الأمر الذي أدي لتكرار الصدامات مع السادات شخصيا وتكرار حوادث العنف بين المسلمين والمسيحيين في مناطق عديدة من مصر ، من ذلك حادث قرية منقطين 1977والاعتداء علي كنيسة العذراء بالقرية ، اوحادث كنيسة سبورتنج 1980 ، ايضا الاعتداء علي محلات الذهب للمسيحيين المعروفة لمحلات روما عام1981، علي ان أحداث الزاوية الحمراء بالقاهرة هي الأكبر والاعلي صوتا حتي تحدث عنها السادات شخصيا في خطاب شهير وقد قتل فيها 81مسيحيا ، وكان دور الراحل عمر التلمساني بارزا في احتواء هذه الأحداث واطفاء نار الفتنة ، وهو ما توكده الوقائع الثابتة، ورغم محاولات إلصاق التهم بالإخوان في كل هذه الحوادث لكن ذلك من قبيل المكايدة السياسية ، والثابت خلال المرحلة الساداتية حرص الإخوان علي الانفتاح مع المجتمع والكنيسة جزء منه..كما ان هناك حركات إسلامية أخري حملت الطابع الثوري او التكفيري نسبت إليها بعض هذه الأحداث ، وبعضها كان رد فعل بين الاهالي وبعضهم البعض .
المرحلة المباركية
حرصت جماعة الإخوان المسلمين خلال ثلاثين عاما هي مدة حكم حسني مبارك علي الإنتشار والتمدد في ربوع مصر والجماعات والنقابات والنشاطات الاجتماعية الي المشاركة السياسية الفاعلة في انتخابات مجلس الشعب والمحليات ، والانفتاح علي التعاون مع اي فصيل سياسي او حزبي آخر حتي لوكان هذا الفصيل غريما وخصما تاريخيا من قبل ، كما كان الحال في تحالف الإخوان مع حزب الوفد في انتخابات مجلس الشعب في الثمانينيات ، وأيضا لا يخفي ولا ينكر التنسيق مع الحزب الوطني الحاكم آنذاك منعا للصدام مع الدولة ، ورغم تصاعد أحداث الصدام والعنف بين مسلمين ومسيحيين في اماكن عدة خلال حكم مبارك لكن كان حرص الإخوان شديدا علي الابتعاد عنها وانكارها ، وربما استخدام هذه الحوادث الطائفية لتأكيد إصلاحية الجماعة وسلميتها وانتقاد تيار إسلامي آخر صعد نجمه خلال مرحلة الثمانينيات وبداية التسيعينات هو تيار الجماعة الاسلامية المتهم الرئيسي في اغتيال السادات ، وكان نقد الاخوان لهم وقتها حادا حينما كانت الجماعة الاسلامية في مواجهة مسلحة مع نظام مبارك وهي المواجهة التي فرضت عليهم وأيضا نقدهم في أحداث طائفية شهيرة اتهمت فيها الجماعة الإسلامية كحادث صنبو بأسيوط عام1992حيث قتل 14مسيحيا ردا علي قتل النصاري لمسلمين هناك ، وهي الاحداث التي تفجر الوضع بعدها علي مستوي مصر.
وفي الوقت الذي تلقت فيه الجماعة الاسلامية والجهاد أشد وأعنف الضربات من نظام مبارك نجح الإخوان في التمدد والانتشار وازدياد النشاط السياسي والنقابي في ظل حالة بين الشد والتاريخ من النظام لتاكده من سلميتهم وعدم الصدام مع التيار الإسلامي عامة ، ولم يمنع ذلك الإخوان من رسائل الارتياح المتبادل مع الكنيسة علي حساب نقد تيارات اسلامية أخري، وصولا للترشح اقباط علي قائمة الاخوان مثل السياسي امين اسكندر ، وكان حرص الإخوان واضحا علي التواصل مع الكنيسة رغم وجود شنودة علي راسها ، وانتهت مرحلة مبارك والإخوان قوة لا يستهان بها سياسيا واجتماعيا وكان واضحا اريحية العلاقة مع الكنيسة، الا من بغض التعكير مثلما حدث عام 1997عندما صرح المرشد الأسبق للإخوان مصطفي مشهور بأن علي المسيحيين دفع الجزية في ظل الدولة الاسلامية التي تتكفل بحمايتهم، ولا يجوز أن يشاركوا في الجيش حتي لا ينحازوا لمسيحييبن مثلهم وقت الحرب مع دولة مسيحية، وهو التصريح الذي اثار ضجة وقتها ، لكن تم احتوائها فيما بعد ...