اقرأ في هذا المقال

وبشكل عام، فإن مفهوم الدولة الإسلامية عند سيد قطب يعتريه بعض التناقضات، فعلى سبيل المثال، نرى سيد قطب يدعم الرؤية التعاقدية للحكم في الإسلام، فهو يرى أن الحكم الإسلامي يعتمد على التزام الحاكم بالعدل، والتزام الأمة له بالطاعة في المقابل، والشورى بين كلا الطرفين، ويؤكد على حقيقة أن الحاكم في الإسلام ليس له أي مزية أوامتياز خاص يفضله عن باقي الأمة، وأنه يجب أن ينصب من قبل الأمة وأن يطاع فقط مادام ملتزما بتطبيق الشريعة.

 

نموذج الدولة في أيديولوجيا سيد قطب

نظريات الدولة في أيديولوجيا الإخوان المسلمين

محمد عفان

 

نموذج الدولة في أيديولوجيا سيد قطب:

جدل أكاديمي صاخب قد أثير حول علاقة أيديولوجيا البنا وقطب، هل هي تواصل أم قطيعة؟. العديد من الكتاب الإسلاميين مثل يوسف القرضاوي وطارق رمضان وفريد عبد الخالق يؤكدون على التمايز بين الأيديولوجيتين،[1] التمايز الذي صاغه ببلاغة طارق البشري قائلا أن أفكار البنا هي أفكار تزرع أرضا وتبذر حبا وتروي أشجارا لتنتشر مع الشمس والهواء، أما أفكار سيد قطب فتحفر خنادقا وتبني حصونا  ذات أسوار عالية وأبراج شامخة، حصونا منيعة، إن الفرق بينهما كالفرق بين الحرب والسلام.[2]

ويعتبر مصطلحا الجاهلية والحاكمية هما المصطلحان الأساسيان للفكر السياسي – الديني لسيد قطب،[3] فأيديولوجيا سيد قطب لم تتأثر فقط بفكرة شمولية الإسلام لحسن البنا، بل أيضا بالفكر الإسلامي لأبو الأعلى المودودي، مؤسس والمنظر الرئيسي للجماعة الإسلامية، والذي استعار منه قطب هذين المصطلحين.[4]

بخصوص مصطلح الجاهلية، فإنه يشير عادة إلى المجتمع العربي قبل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن سيد قطب أعطى تعريفا جديدا لهذا المصطلح، فالجاهلية كما وصفها الله تعالى وكما عرّفها القرآن الكريم تعني حكم البشر بالبشر، لأن ذلك يتضمن عبودية البشر للبشر بدلا من عبوديتهم لله، والافتئات على ألوهية الله تعالى بمنح بعض خصائص هذه الألوهية للبشر، وبهذا فإن الجاهلية ليست حقبة زمنية، بل هي حالة وجدت بالأمس، وتوجد اليوم، وقد تتكرر غدا.[5]

وبناء عليه، يخلص سيد قطب إلى أن المسلمين في عصره قد عادوا إلى حالة الجاهلية، بل ينص بجرأة على أن وجود الحياة الإسلامية والأمة الإسلامية، بل ووجود "الإسلام" ذاته قد توقف منذ فترة طويلة، وهي الحقيقة التي يرى أنها قد تحدث صدمة وذعر وخيبة أمل للكثيرين ممن يزالون يحبون أن يكونوا "مسلمين".[6]  وذلك لأن المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها مسلمة تدخل في إطار المجتمع الجاهلي، فهي تعطي أخص خصائص الأولوهية - وهي الحاكمية - لغير الله، فتتلقى من حاكمية غير الله نظامها، وشرائعها وقيمها، وموازينها، وعاداتها وتقاليدها، وكل مقومات حياتها تقريبا.[7]

وفي مقابل الجاهلية، وفي تناقض صارخ معها، يأتي مفهوم الحاكمية، والحاكمية مشتقة من الجذر اللغوي حكم، وتشير إلى أعلى سلطة حكومية وتشريعية،[8] وقد امتاز مصطلح الحاكمية عند سيد قطب بخصائص ثلاثة:

أولا: أن نظام الحكم في الإسلام مرتبط بالعقيدة، فالحاكمية ترتبط بتحقيق الأولوهية لله وحده، فـ"الله سبحانه يتولى الحاكمية في حياة البشر، عن طريق تصريف أمرهم بمشيئته وقدره من جانب، وعن طريق تنظيم أوضاعهم وحياتهم وحقوقهم وواجباتهم، وعلاقاتهم وارتباطاتهم بشريعته ومنهجه من جانب آخر. وفي النظام الإسلامي، لا يشارك الله سبحانه أحد، لا في مشيئته وقدره، ولا في منهجه وشريعته .. وإلا فهو الشرك والكفر .. لأن هذا معناه رفض ألوهية الله، وادعاء خصائص الألوهية في الوقت ذاته."[9] فـ"قضية الحاكمية والشريعة في هذا الدين هي قضية عقيدة ودين قبل أن تكون مسألة حكم ونظام".[10]

ثانيا: أن مفهوم الشريعة ومدلول "الحاكمية" لا ينحصر فقط في مسائل التشريع والأحكام القانونية، ولا حتى في أصول الحكم ونظامه، بل إنها تتسع لتشمل كل ما شرعه الله لتنظيم الحياة البشرية، من الاعتقاد والتصور، إلى الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، إلى التشريعات القانونية، إلى قواعد الأخلاق والسلوك، بل والمعرفة بكل جوانبها، وفي أصول النشاط الفكري والفني جملة،"وفي هذا كله، لابد من التلقي عن الله ، كالتلقي في الأحكام الشرعية – بمدلولها الضيق المتداول – سواء بسواء".[11]

ثالثا: أن سيد قطب أعطى الحاكمية بعدا فلسفيا مثاليا (Idealism) بربطها بحقائق الوجود ونظام الكون، فعلى نهج الفلسفة المثالية، يرى قطب أن كل جزء من هذا الكون في وحدة متكاملة وفي تجانس تام مع الكل،  وأن الكون يحكمه قانون واحد يربط كافة أجزائه بهذا النظام المتجانس والمرتب، وأن هذا الترتيب المنظم إنما هو نتاج إرادة حاكمية واحدة،[12] ومن ثم، نظَّر سيد قطب لتفرد المنهج الإسلامي، فهو المنهج الوحيد الذي يقوم نظام الحياة البشرية فيه على أساس من التفسير الشامل للوجود، وهو الذي  يتسق مع نظام الكون كله، "فلا ينفرد الإنسان بمنهج لا يتناسق مع ذلك النظام، على حين أنه مضطر أن يعيش في إطار هذا الكون، ... والتناسق بين منهج حياة الإنسان ومنهج حياة الكون هو وحده الذي يكفل للإنسان التعاون مع القوى الكونية الهائلة، بدلا من التصادم معها، وهو حين يصطدم معها يتمزق وينسحق"، ولهذا فإن البشرية اليوم تعيش حياة الشقاء والحيرة والاضطراب.[13]

هذه الرؤية المثالية الراديكالية لم تميز فقط المعتقدات الدينية - السياسية لسيد قطب، بل واستراتيجيته للتغيير أيضا، فهو يرى أن الوعظ والدعوة لا يكفيان فقط لأن أولئك الذين يغصبون حق الأولوهية لن يتنازلوا عن سلطاتهم طواعية،[14] ولهذا فإنه دعا إلى تكوين طليعة إيمانية جاهزة لجهاد النظم الجاهلية الحديثة،[15] وبخلاف البنا، رأى قطب أن الجهاد هو الوسيلة الأساسية للتخلص من المعوقات التي تحول دون تأسيس الدولة الإسلامية، ولتحرير الإنسان من كل سلطة غير سلطان الله.[16]

 هذه الأفكار الراديكالية دفعت حسن الهضيبي - المرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمين- لإعداد كتاب بعنوان "دعاة لا قضاة" عام 1969م وعمل على تداوله بين الإخوان في السجون لتفنيد هذه الأفكار،[17]  علاوة على ذلك، فإن عمر التلمساني – خليفة الهضيبي – كتب في أوائل الثمانينيات أن أفكار سيد قطب تعبر عنه ولا تعبر عن الإخوان المسلمين.[18]

أما بخصوص النسخة القطبية لنموذج الدولة الإسلامية، فهي كذلك لديها منظور مختلف تماما عن النسخة البنوية، فعبد الإله بلقزيز يشير إلى أنه في مقاربة الاتجاه القطبي لموضوع الدولة الإسلامية لن نقرأ أي حديث عن الدعوة للحكم الدستوري أو أن الأمة مصدر السلطة السياسية أو العلاقة بين الشريعة والديمقراطية أو فكرة التمثيل النيابي أو نحو ذلك، بل في المقابل، سنجد الحديث عن الكفر والإيمان، الحاكمية والجاهلية، مفاصلة المجتمع والثورة، وما إلى ذلك.[19]

وحقيقة، تبدو رؤية سيد قطب للدولة الإسلامية محيرة وغامضة، فهو يعترف أنه غير مشغول بتفاصيل ما هو النظام الإسلامي، بل ويعتبر السؤال عن تفاصيل النظام الإسلامي الذي يدعو إليه، من قبيل الإحراج الذي تضغط به الجاهلية على أعصاب الدعاة المخلصين، ومن قبيل محاولاتها دفعهم لتعجل الخطوات، والتي يجب أن تركز الآن على خطوة دعوة هؤلاء إلى التسليم لحاكمية الله، مشيرا إلى أنه ليس ما ينقصنا الآن هو الاجتهاد والبحوث الفقهية على الأصول الحديثة،وأن النظرية تتبلور أثناء الحركة، وأن ملامح النظام تتحدد أثناء الممارسة، داعيا أصحاب الدعوة ألا يستجيبوا لهذه المناورة، وألا يستخفنهم الذين لا يوقنون.[20]

وبشكل عام، فإن مفهوم الدولة الإسلامية عند سيد قطب يعتريه بعض التناقضات، فعلى سبيل المثال، نرى سيد قطب يدعم الرؤية التعاقدية للحكم في الإسلام، فهو يرى أن الحكم الإسلامي يعتمد على التزام الحاكم بالعدل، والتزام الأمة له بالطاعة في المقابل، والشورى بين كلا الطرفين، ويؤكد على حقيقة أن الحاكم في الإسلام ليس له أي مزية أوامتياز خاص يفضله عن باقي الأمة، وأنه يجب أن ينصب من قبل الأمة وأن يطاع فقط مادام ملتزما بتطبيق الشريعة. [21] لكنه، على جانب آخر، يهاجم بعنف النظام الديمقراطي، ويرفض بشدة الزعم بأن الشورى في الإسلام مرادفة للحكم البرلماني أو لأي نمط آخر من أنماط الديمقراطية، لأنه يرى أن الشورى هو نظام مستمد من الوحي الإلهي، وتستند إلى مرجعية الحاكمية، والتي تعني أن السيادة المطلقة لله وحده، أما الديمقراطية العلمانية، فترتكز على أن السيادة المطلقة للشعب، وهو ما يعد افتئاتا على حق من حقوق الله عز وجل.[22]

وعلى الرغم من ذلك، فإن سيد قطب لا يدعو إلى دولة دينية خالصة تستمد شرعيتها من الله وحده كما يزعم عبدالإله بلقزيز،[23] فسيد قطب ينص على أن رأس الدولة الإسلامية لا يستمد شرعيته من سلطة دينية مستمدة من السماء بشكل مباشر، ولا يمكنه تسويغ حقه لممارسة السلطة إلا بناء على البيعة الحرة من الأمة،[24] لذا، فإنه يبدو أن سيد قطب يتبنى مفهوما مختلطا للسيادة، فهو يؤمن بالأساس الدستوري والشوري للحكم الإسلامي، ولكن تحت سيادة إلهية دينية، وهو المصطلح الذي أسماه المودودي بـ"الديمقراطية الثيوقراطية".[25] وطبقا لسيد خطاب، فإن قطب يميز بين مفهومين: مصدر السلطة وممارسة السلطة، فمصدر السلطة كما يراه سيد قطب لا يعود إلى الأمة المسلمة أو ينتج عن الانتخاب أو البيعة، بل مصدر السلطة ينبع من الالتزام بتطبيق الشرع، أما ممارسة السلطة فهي التي يجب أن ترتكز على الشورى،[26] وبالتالي فإن نظام الحكم الإسلامي عند سيد قطب ليس ثيوقراطيا أو أوتوقراطيا، بل هو في موقع ما بين الديمقراطية والثيوقراطية.

لكن هذا التصور يثير سؤالا آخر حول العلاقة بين الإلهي والبشري في الدولة الإسلامية، وهو ما يعد مثالا آخر للتناقض في نظرية سيد قطب، فمن جهة يؤكد سيد قطب – كمنظّر راديكالي – على الطبيعة الفريدة والمقدسة والغير قابلة للتغيير للنظام الإسلامي، فالشريعة الإسلامية لم تنشأ وتتطور تدريجيا بتطور المجتمع المسلم، بل لقد نشأت من البداية بشكلها الكامل والمستقر لأنها تمثل الوحي الإلهي، ولهذا فهي لم تُؤسس من قبل المجتمع المسلم، بل حقيقة هي المؤسسة له، ففي ظلال الشريعة الإسلامية تطور المجتمع المسلم في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها من الخصائص التي تميز أنماط وهوية المجتمعات، وهذا هو السبب في أن نظام الحكم الإسلامي لا يمكن أن يتواجد مع أي نظام حكم آخر من مصدر بشري.[27]

لكن في مواضع أخرى، نرى سيد قطب يقر بأن الشريعة تتمثل في مبادئ كلية وأحكام عامة، وأنها تعبر عن إطار عام يسمح باستيعاب التغيرات والتطورات المستمرة في حياة البشر، وبالتالي يصير واجبا على المسلمين في كل حقبة أن يعيدوا تعريف وفهم وتطبيق الشريعة الإسلامية وفق حاجاتهم الخاصة،[28] وبالتالي – وفق هذه الرؤية – فإن الشريعة الإسلامية ليست ذلك النظام الثابت، المفصّل، المعد للتطبيق المباشر، والذي يعد إلهيا بكليته، بحيث لا يتجاوز دور البشر فيه مجرد التطبيق الفوري والمباشر، وهو ما كان يُفهم من الرؤية الجذرية السابقة. وبالتالي تتمثل إشكالية هذه الرؤية الراديكالية الأولى في أنها تعزو مهمة تحويل المبادئ الكلية والأحكام العامة للشريعة إلى قواعد وسياسات تفصيلية إلى الله دون إشارة إلى أي دور بشري في ذلك، وهو ما ينتج عنه تلقائيا إضفاء القداسة على الاجتهاد البشري في تفسير الشريعة، وترك فراغ يمكن أن يستغله أحد الأطراف للحديث باسم الله

 

[1] Soage, “Hasan al-Banna And Sayyid Qutb: Continuity or Rupture?”, 249-250.

[2] Belkeziz, The state in contemporary Islamic thought, 198.

[3] Ayoob, The many faces of political Islam, 73.

[4] Fathi Osman, “Mawdudi’s Contribution to the Development of Modern Islamic Thinking in the Arabic-Speaking World”, The Muslim World 93 (2003), 480.

[5] William E. Shepard, “Sayyid Qutb’s doctrine of Jahiliyya”,  International Journal of Middle East Studies 35 (2003): 522, 524.

[6] سيد قطب، العدالة الاجتماعية في الإسلام، دار الشروق، القاهرة، ط18، 2013، ص: 221-223.

[7] سيد قطب، معالم في الطريق، دار الشروق، القاهرة، 1973، ص: 91-92.

[8] Sayed Khatab, “Hakimiyyah and Jahiliyyah in the Thought of Sayyid Qutb”, Middle Eastern Studies 38, 3 (2002):145.

[9]  قطب، العدالة الاجتماعية في الإسلام، ص: 99.

[10] سيد قطب، مقومات التصور الإسلامي، نقلا عن: زكريا، الدولة والشريعة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، ص:287.

[11] قطب، معالم في الطريق، ص: 123-124.

[12]  Khatab, “Hakimiyyah and Jahiliyyah in the Thought of Sayyid Qutb”, 152.

[13] سيد قطب، هذا الدين، دار الشروق، القاهرة، 2001، ص: 24-26.

[14] Soage, “Hasan al-Banna And Sayyid Qutb: Continuity or Rupture?”, 303.

[15] Wickham, The Muslim Brotherhood: evolution of an Islamist movement, 28.

[16] Soage, “Islamism and Modernity: The Political Thought of Sayyid Qutb”, 197.

[17] Wickham, The Muslim Brotherhood: evolution of an Islamist movement, 28.

[18] Ayoob, The many faces of political Islam, 80.

[19] Belkeziz, The state in contemporary Islamic thought, 199-200.

65. قطب، معالم في الطريق، 44-45.

[21] Soage, “Hasan al-Banna And Sayyid Qutb: Continuity or Rupture?”, 302.

[22] Khatab, “Hakimiyyah and Jahiliyyah in the Thought of Sayyid Qutb”, 159-160.

[23] Belkeziz, The state in contemporary Islamic thought, 210.

[24] Khatab, “Hakimiyyah and Jahiliyyah in the Thought of Sayyid Qutb”, 161.

[25] زكريا، الدولة والشريعة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر،263.

[26] Khatab, “Hakimiyyah and Jahiliyyah in the Thought of Sayyid Qutb”, 161, 165.

[27] Ibid., 160.

[28]  قطب، نحو مجتمع إسلامي، 39-41

Powered by TayaCMS