جدلية العلاقة بين الإخوان والسلفية في مصر: المفاهيم والميادين-2
السلفية، نظرة معرفية-2
د.رضوان منیسي عبدالله
محاولات الاصلاح
ظلت النخبة الإسلامية في تجلياتها الأزهرية والمدارس السلفية منقسمة وحادة وجامدة ويتربص بعضها ببعض في أجواء سياسية محتقنة ردحاً من الزمن حتى انتهت حروب محمد علي وأسرته في الجزيرة العربية وابتليت البلدان العربية ومنها مصر بالاحتلال الغربي وتحولت الحركة الوهابية إلى فكر الدولة والاستقرار والتصالح النسبي مع محيطها الإقليمي.. وظهر حراك فردي إصلاحي قاده جمال الدين الافغاني و محمد رشيد رضا وغيرهم تمخض عن محاولات إصلاح بعضها جزئي مثل جمعية الشبان المسلمين وأنصار السنة وجماعات إعمار المساجد ودفن الموتى التي سرعان ما احتوت الدولة كثيرا منها كما ظهرت جماعات تسعى للشمولية في الإصلاح بمنهج إسلامي؛ مثل جماعة الحضارة الإسلامية لكن الجماعة التي كانت لافتة هي جماعة الإخوان المسلمون وانضمت لها جمعية الحضارة ويبدو أن المنهج الوسطى التصالحي الذي انتهجته بين القطبين الفكريين التصوف والسلف كان من أهم عوامل سرعة انتشارها، فقد جاء في وصف الجماعة بأنها دعوة سلفية و طريقة سنية وحقيقة صوفية أي تجمع بين الاقتداء بمنهج الصحابة والتابعين في استقاء فهم العقائد و العبادات والمعاملات من خلال نصوص الشريعة و أصولها كما تستفيد من التراث الروحي و التربوي الذي انتهجه المتصوفة وجمهور أئمة المسلمين في تجاربهم في بناء الفرد روحيًّا و جماعياً مع ضبطه بما ورد في الآثار الصحيحة الثابتة وتأصيلها و إجلاء ما لحقها من غبش أو تزيد وهذا هو جوهر فكرة العلامة ابن القيم.. وكانت الجماعات الإصلاحية في المجتمع المصري تواجه مشكلات بنيوية حيث ما تلبث الجماعة أن تقوم حتى تختفي ولعلها من التربية الاجتماعية التي غلبت على تكوين الشخصية المصرية وعبر عنها جمال حمدان (بالرأس الكاسح والجسد الكسيح) فالشيخ سواء أكان سلفيا أو صوفيا أو حتى في مجال الحكم ورئاسة المهن أو إدارة العمل هو كذلك هو كل شيء فلا توجد قواعد عمل ولا لوائح مكتوبة ولا انتخابات .. الجديد أن مؤسس الإخوان ومن معه من أصحاب الفكرة الشمولية للإصلاح أنهم وضعوا نظاما شاملا للعمل الدعوي والحركي والتربوي وطريقة اتخاذ القرار وبنوا بنيانا مؤسسيا يعتمد اللوائح ومحاضر الاجتماع وخطة عمل وتوزيع المهام، ولا ريب أن هذا النظام كان يتطور باستمرار وفق المبادئ الأساسية التي كان يبثها حسن البنا في الرسائل بناء على رفع الواقع كل عدة شهور وقياس النتائج والتقدم بسرعة نحو المجتمع في قاعدته الريفية والشبابية وفي نخبته الفكرية مما مهد لنشوء مفهوم واسع للسلفية عند الإخوان يتجاوز الماضي القريب ويحاول القفز على تراكمات الصراع الثنائي الحاد بين الصوفية والسلفية وتخليص التجديد من براثن السلطة الاحتلالية الممسكة بأعناق الجميع.
نعم لقد واكب ميلاد جماعة الإخوان المسلمين في الربع الأول من القرن الماضي ضرورات اجتماعية وتاريخية وسياسية، فقد شهد العالم إسقاط الخلافة الجامعة في تلك الحقبة واحتلال كامل للعالم الإسلامي ووضعه تحت الوصاية الدولية، كما شهدت الحياة الثقافية والاجتماعية صراعاً حاداً حول سؤال الهوية في ظل فقر مدقع وأمية واسعة و استعمار استيطاني دموي في فلسطين والجزائر.
ولم تقتصر تلك الضرورات على ذلك فقط فقد شهد صراع الهوية استقطاباً حاداً في مصر بين النخب العلمية والقوى الاجتماعية والسياسية التي كان يهيمن الاحتلال البريطاني على توجيه صراعتها و تناقضها لخدمة مصالحه، وما يهمنا هنا هو التيار الفكري السائد بين المدارس الإسلامية الذي يحمل أصول المنهج السلفي قبولا ورفضا
التفاعلات الدینیة بین الاخوان و المکونات الاسلامیة الاساسیة فی مصر
من خلال ما تقدم نستطيع أن نرصد تفاعلا دينيا وثقافيا بين مفهوم السلفية عند جماعة الإخوان المسلمين والمكونات الإسلامية الأساسية في مصر سواء أكانت نخبوية أو شعبية أو حكومية ونمثل لها بثلاث مكونات الكتلة العلمية الأزهرية والكتلة الروحية وكتلة المدارس السلفية التقليدية.
الصوفية
ولن نقف كثير عند موقف المتصوفين من سلفية الإخوان فقد نهجت معهم نهجا تصالحيا تدريجيا ولا نكاد نسمع بحوادث كبيرة بين الطرفين إلا في نهاية السبعينات عندما دخلت تيارات السلفية الجهادية والسلفية العلمية في إطارها المذهبي الضيق ومحاولة السلطات توظيف الصوفية في عملية الاحتواء الفكري والأمني التي قامت بها عقب تزايد الغضب الشعبي المحدود بعد كامب ديفيد وظهور بوادر الفساد الرأسمالي
لقد انتشرت دعوة الإخوان بين طلاب الجامعات بشكل كبير وانتظم الطلاب في برامج ثقافية وكان أغلبهم من المناطق الريفية وبخاصة طلاب الأزهر ودار العلوم الذين كانوا يتزودون بالزاد التربوي والروحي والثقافي من القاهرة ويعودون إلى قراهم في الريف ويحلون الدعوة الجديدة محل الدعوة الصوفية بسهولة حيث لم يكن لهم سمت يخالف الصوفية كثيرا أو أنهم هاجموا الصوفية فغيروا في آبائهم وأسرهم وعائلاتهم وجيرانهم حيث مثلوا قدوة حسنة وكانوا دعاة رفقاء مدربين يشرف الشيخ البنا عليهم بنفسه فإذا استوت القرية وكثر عدد شباب الإخوان بها تظهر مجموعة قليلة منهم الهدي النبوي الظاهر بالتدريج وبخاصة الخطباء والدعاة ومسؤولي الشعب فإذا اطمأن الإخوان لقبول معتبر افتتحوا شعبة تجمع بين الإخوان وتقدم الخدمات فصارت الدعوة بثلاثة إلا من حدوث جفوة عند احتفالات الصوفية والعامة بالمولد النبوي فكان الإخوان يكتفون بإقامة الدروس وسرد السيرة النبوية الصحيحة الخالية من القصص غير الموثقة؛ ولولا ذلك ما كان يشعر الصوفية بالقلق وكانت جماعات التبليغ والدعوة قد دخلت مصر وتنافست مع الإخوان في تنوير العامة وطي صفحة التصوف من الريف المصري بالتدريج وجفت منابع الصوفية من الشباب وتحولوا إما إلى الإخوان أو التبليغ والدعوة
الأزهر
بفكره الوسطي و العلمي و المنفتح على المذاهب الإسلامية المعتدلة لم تتح للأزهر في حقبة ظهور الإخوان المسلمين أن يقوم بالدور المطلوب منه فقد حاصرته أسرة محمد علي منذ وقت مبكر وروضت شيوخه وقضت على نظامه الانتخابي والتربوي وقصرت دوره على الجوانب العلمية، وفرغته من العمل الدعوي التطوعي وصيرت دعاته موظفين رسميين وإن ظل الجسم الأكبر من علمائه وطلابه يشتاق لأصول الدعوة وسلوكيات الدعاة كما يدرسها ويدرسها إلا أن السلطة أقامت حواجز بين الأزهر والمجتمع من خلال وسائل كثيرة ولم يبق له سوى منفذ واحد تحدده الحكومة بإشراف المحتل الذي باشر خطة نائب العموم البريطاني جلادستون (صار رئيس وزراء بريطانيا فيما بعد) عن تطوير الأزهر (مواجهة المعهد الناشز)، من الداخل لترويضه و تفريغه من تأثيره الروحي و الإصلاحي خلال خمسين عاما وخلق فضاءات علمية حكومية منافسة تحت شعار إلغاء احتكار الأزهر للتعليم وتلاه شعار إلغاء ازدواجية التعليم الديني والمدني ونحو ذلك بإشراف "دنلوب" ومع ذلك ظل الجانب العلمي حيًّا ومن بين عناصر الحياة الخط السلفي العلمي المعتمد على رحابة البحث وحرية الفكر وتعدد المذاهب وتراث تعليمي كبير والنظر إلي الصحابة والتابعين و أئمة مذاهب السنة نظرة اقتداء واتباع ونظر الشيخ البنا للأزهر على أساس أنه مؤسسة إسلامية كبرى تحتاج إلي الإصلاح الإداري وحضورها الإصلاحي في المجتمع لا يتناسب مع تاريخها العظيم وهي مخزن كبير للعلوم الإسلامية فعمل في اتجاهين التواصل البناء مع تلك المؤسسة العريقة وتحفيزها للعب دور اجتماعي بناء من خلال الشعب الإخوانية المنتشرة في طول البلاد وعرضها والاهتمام الفائق ممن يلتحق من علمائها بالإخوان وتنزيله المنزلة اللائقة به في التثقيف الديني والتهذيب الأخلاقي واعتباره مصدرا من مصادر المعرفة العملية الرصينة وحصنا أمينا على تراث الأمة وسلفها الصالح و اعتمد بشكل كبير على علماء الأزهر ممن انضموا للجماعة في تأصيل شرح العقيدة و الشريعة و الفقه مع إضفاء الجانب الدعوي والحركي و التنظيمي المكتسب من فكر الجماعة والتخلي عن العصبية المذهبية التي كانت ظاهرة عند بعض أقطاب المذاهب السنية الأربعة وقد أدي استقطاب الجماعة لرموز أزهرية إلي وجود تمايز بين عالم أزهري تقليدي ينظر إلي الوظيفة ومحددات السلطة وآخر عالم أزهري ينتمي لمدرسة الإخوان يجد دعاة متطوعين مستمعين شغوفين لعلمه وليسوا مجرد طلاب يهتمون بما سيكون موضوعا للاختبارات! فالشيخ سيد سابق على سبيل المثال قدم أول كتاب في الفقه المقارن بشكل مبسط يتجاوز التعصب المذهبي لأحد الأئمة الأربعة الذي كان سائداً في السلفية الأزهرية الضيقة، حيث أتباع المذاهب الأربعة لا يصلي بعضهم خلف بعض (المقتصر علي تقليد السلف من اجتهاد مذهب معين ) و كان تأليف الكتاب( فقه السنة ) بناء على طلب مباشر من الشيخ حسن البنا، وهو من كتب مقدمة الكتاب واعتمد الإخوان كتاب فقه السنة واحداً من عناصر المنهج الثقافي الذي يدرس للإخوان في البرامج التثقيفية وصار مرجعا أوليا لأكثر الحركات والتجمعات الدعوية السنية في العالم.
وعلى هذا المنوال قدمت مؤلفات ذات السيرة النبوية مثل كتاب د.مصطفى السباعي (السيرة النبوية دروس وعبر) ومؤلفات الشيخ محمد الغزالي وصولا للشيخ يوسف عبدالحليم محمود ومحمد مخلوف والشيخ القرضاوي والدكتور عبدالستار فتح الله سعيد وغيرهم ولم تنافس الأزهر في اعتبارها موردا معرفيا لسلفية الإخوان إلا قلعة دار العلوم التي ينتمي إليها الأستاذ المؤسس وقد وضع الإخوان ضمن مناهجهم الثقافية مؤلفات سيد قطب حتى قبل أن ينضم للإخوان ( الإسلام والعدالة الاجتماعية) .
و كان المفهوم الذائع عن علماء الأزهر بزيهم الخاص معروفين عند العامة بالحديث في الفقه و الفتاوى وأحكام الزواج والطلاق والرقائق والأذكار، ولا يتكلم في السياسة إلا من يرتدى زي الأفندية بالبذلة والكرافتة أو الطربوش، فأراد الشيخ تغيير هذا المفهوم الخاطئ فعرض عليهم تبديل الأدوار بين الأفندية و الأزاهرة من المنتمين للجماعة بأن يتكلم الشيوخ من علماء الأزهر في السياسة الشرعية والفكر المعاصر والفنون والآداب والثقافة و يتكلم الأفندية في الرقائق و الأذكار وآثار العبادة حتى تتغير المفاهيم ويخرج كل من قوقعته وينفتح على الواقع ومشكلات المجتمع.
شقت جماعة الإخوان طريقها في حالة تصالح مع الأزهر إلا في حالات محدودة تمسك السلطة بتلابيب الأزهر وتحاول مواجهة الجماعة به في فترات الصراع السياسي المرير بين الجماعة والسلطة حدث ذلك في عهد عبدالناصر وتجدد بعد انقلاب 3 يونيو بينها كما شقت طريقها مع الصوفية بعد أن حلت تقريبا في كل المواقع الميدانية التي كانت مسرحا للصوفية في الريف المصري وإن لم تتمكن من أن تحل محلها في المواقع الكبرى التي احتضنتها الحكومة وسرى فيها النفس الشيعي الخفيض مثل مسجد الحسين رضي الله عنه وبقية مساجد الآل التي أحكمت الدولة عليها القبضة وحاولت توظيفها في صراعها ع السياسي مع الإخوان وغضت الطرف عن بعض المخالفات الصوفية الصارخة التي تهدف لاستفزاز التيارات الإسلامية بإذن السلطة ومعرفتها فوقعت الصوفية فجوة بين الإخوان والصوفية على أساس مشابهة فريق من منتسبي الإخوان في الهدي الظاهر مع التيارات المعروفة بالسلفية التي بينها والصوفية تشاحن كبير إضافة إلى موقفهم من احتفالات المولد النبوي أو موالد الصالحين كما أشرت من قبل
بدایة الشعور بالغیریة
وفي نهاية السبعينيات من القرن الماضي وتطور المدارس السلفية وتدفق بعض الفوائض المالية على شيوخها ومع دخول الإخوان انتخابات مجلس الشعب بدأت تقع الفجوة والشعور بالغيرية بين قواعد الإخوان وقواعد السلفية العلمية وكلك السلفية العلمية الجماعات السلفية فظهرت معايب المدارس السلفية على جماعة الإخوان بعدم التزام جميع كوادرها بالهدي الظاهر وأخذها بنظام تربوي جماعي يعتمد نظام الأسرة والكتيبة والرحلة ووضع نظام تراتبي من مكتب إرشاد وهيئات إدارية وشعب منظمة ودخولها في السياسة والاقتصاد والاجتماع ووضع البرامج الرياضية فضلا عن وجود توثيق للأفراد المنتسبين على طريقة مدارج السالكين عند الصوفية من محب و مريد وسالك وعامل ومجاهد وكانت المجموعات التي تأخذ بالمفهوم السلفي في النطاق الضيق (الاقتصار على إمام واحد أو عالم واحد أو طريقة واحدة)، فقد نظرت بعضها لذلك على أنه أنه ابتداع غير وارد عن السلف وبعضها صمت واعتبره من الاجتهاد الخاطئ الذي وفريق قليل من المستقلين اعتبره من التجديد الحركي في الوسائل (سنجد تفصيلا للاحتكاك الميداني بين الفريقين في المبحث التالي).
والحق أن فكرة الإخوان في بعدها السلفي المتسع وبعدها الصوفي المنضبط لاقت قبولا اجتماعياً واسعاً وصارت لها تمايزها عن الطرق الصوفية و عن المدارس العلمية السلفية فهي تبدأ بالتدرج مع الفرد ومع المجتمع ولا تفاتح الفرد بقيود المدارس السلفية من الهدي الظاهر بل تركز على السلوك و الأخلاق أولاً ثم تترك له الباب ليتدرج للمرحلة التي تليها و اتخذ التباين الدعوي و التربوي يوجد فروقاً ملحوظة بين النخب الإخوانية و النخب الصوفية والنخب السلفية .