اقرأ في هذا المقال

أن الأمة هي "الخليفة الحقيقي لله"، والتي لها السلطة العليا والمنوط بها تعريف وتطبيق الشريعة،لأنه في اجتهاد "الأمة المهتدية بهدي الله، تقتبس من نوره ... عصمة من الضلال الجماعي"، وأن صيغة الحكم الإسلامي هي "الله-الأمة-الحاكم" وليست "الله-الحاكم-الأمة"

يتبنى الإسلامويون الديمقراطيون المفهوم الحديث للمواطنة، فهم يعتقدون أن الأمة في الدولة الإسلامية هي مصدر السلطات وهي المالكة للسيادة العليا بخصوص أمور الحكم

 

النموذج الديمقراطي للدولة الإسلامية في أيديولوجيا الإخوان المسلمين

نظريات الدولة في أيديولوجيا الإخوان المسلمين

محمد عفان

النموذج الديمقراطي للدولة الإسلامية في أيديولوجيا الإخوان المسلمين:

 

على الرغم من الجدل حول مدى ديمقراطية نموذج الدولة عند حسن البنا، فإن المزاج الديمقراطي في فكر الإخوان المسلمين قد نضج لاحقا على يد مجموعة تالية من مفكري الحركة والمنظرين لها مثل الشيخ يوسف القرضاوي والشيخ راشد الغنوشي، والذين انتقدوا بعنف النظرية السلطوية للدولة الإسلامية، فالغنوشي - على سبيل المثال - يقول: "يشعر المرء بنوع من القرف من استمرار هذا العفن قائما في تراثنا الديني، وفكرنا السياسي، إذ يضع يده مباشرة على هذه الألغام التي قوضت حضارة الإسلام، وأسلمتنا إلى الانحطاط" في إشارة إلى الأفكار التي تنص على أن "المسلمين أجمعوا على صحة الاستخلاف أو التوريث أو الإمام الوصي"، وأن الشورى للاستئناس، "وبحسب فهمه السقيم معلمة وليست ملزمة"، أو أن رئيس الدولة في النظام الإسلامي هو الدولة.[1]

وتتمثل الأسس العامة للنظرية الديمقراطية للدولة الإسلامية في المبادئ الآتية:

أولا: أن الأمة هي "الخليفة الحقيقي لله"، والتي لها السلطة العليا والمنوط بها تعريف وتطبيق الشريعة،[2] لأنه في اجتهاد "الأمة المهتدية بهدي الله، تقتبس من نوره ... عصمة من الضلال الجماعي"[3]، وأن صيغة الحكم الإسلامي هي "الله-الأمة-الحاكم" وليست "الله-الحاكم-الأمة".[4]

ثانيا: أن الشورى ملزمة للحاكم، وليست معلمة، فهذه المدرسة ترى "أن أول ما أصاب الأمة الإسلامية في تاريخها هو التفريط في قاعدة الشورى، وتحول الخلافة الراشدة إلى ملك عضوض سماه بعض الصحابة كسروية أو قيصرية، أي أن عدوى الاستبداد الإمبراطوري انتقلت إلى المسلمين من الممالك التي أورثهم الله إياها"، وكما أشار الشيخ القرضاوي "أن الشورى لا معنى لها إذا كان الحاكم يستشير ثم يفعل ما يحلو له، وما تزينه له بطانته، ضاربا برأي أهل الشورى عرض الحائط، وكيف يسمى هؤلاء أهل الحل والعقد كما عرفوا في تراثنا، وهم في الواقع لا يحلون ولا يعقدون؟!". وبالرغم من إقراره بوجود خلاف فقهي حول إلزامية الشورى، فإنه يرى "إن ما أصاب أمتنا – ولا يزال يصيبها إلى اليوم – من جراء الاستبداد، يؤيد الرأي القائل بإلزامية الشورى".[5]

ثالثا: وفي توافق مع الأفكار السياسية لحسن البنا، يرى الإسلامويون الديمقراطيون أن الديمقراطية آداة مناسبة لتطبيق مبدأ الشورى الإسلامي، فعلى سبيل المثال، يعتقد الغنوشي في ملاءمة الإسلام والديمقراطية، ويتبنى نموذجا ديمقراطيا إسلاميا، يتآلف من قيم النظام الإسلامي وميثاقه الأخلاقي من جهة، والآليات الديمقراطية الغربية من جهة أخرى، إيمانا بأن الإسلام لا يتعارض مع الديمقراطية، بل يشاركها بعض الخصائص، بما يتيح تبادل التعايش المشترك وتبادل المزايا بينهما.[6] وهذا النموذج وفقا للغنوشي، لا يحل فقط مشكلة الاستبداد في العالم الإسلامي، بل ويحل أيضا المشكلة الأساسية للديمقراطية الليبرالية، وهي فلسفتها المادية، فغياب القيم المتجاوزة والدور الذي يلعبه المال والإعلام حوّل الديمقراطية من حكم الشعب بالشعب لصالح الشعب إلى حكم الشعب بالأثرياء وذوي السلطة لصالح الأثرياء وذوي السلطة.[7]

ويفرق الإسلامويون الديمقراطيون بين الديمقراطية كمنظومة فلسفية والديمقراطية كمجموعة من الممارسات والإجراءات (الانتخابات، الاستفتاءات، التعددية الحزبية، ...) والتي تمكن الشعوب عمليا من ممارسة حقهم في اختيار من يحكمهم، وألا يفرض عليهم حاكما أو نظاما يكرهونه، وأن يكون لهم حق محاسبة الحاكم إذا أخطأ، وعزله إذا انحرف، وألا يساق الناس رغم أنوفهم إلى اتجاهات ومناهج سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وإذا عارضوها تم التنكيل بهم.[8] لذلك فهم يرفضون بشدة الآراء والفتاوى الدينية التي تدين الديمقراطية وتتهمها بأنها بدعة وتقليد للغرب، فحكم الشعب ليس مضادا لحكم الله، بل لحكم الفرد،[9] ويرد الغنوشي بالإشارة إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق الناس بها"، وإلى قول الفقهاء "أينما وجد العدل والمصلحة، فثم شرع الله".[10] وبالتالي يؤمن الغنوشي أن النظام الديمقراطي كما عمل في إطار القيم المسيحية وأنتج الديمقراطية المسيحية، وكما عمل في إطار الفلسفة الاشتراكية فأنتج الاشتراكية الديمقراطية، يمكنه أن يعمل بذات المنطق في إطار القيم الإسلامية فينتج ديمقراطية إسلامية.[11]

وبالمحصلة، فإن النظرية الديمقراطية للدولة الإسلامية تعبر عن نسخة إسلامية من نمط الهيمنة القانونية الذي نص عليه ماكس فيبر، فهي تقبل فقط الأساس القانوني للشرعية السياسية، المرتكزة على البيعة الحرة للأمة، وترفض النمطين "المنحرفين" الآخرين: الاستخلاف الوراثي، والتغلب بالقوة، وطبقا لهذه النظرة، فإن العلاقة بين الحاكم والأمة تعاقدية، وبموجب هذا التعاقد، يكون الحاكم نائبا عن الأمة ويلتزم بتطبيق الشرع، وفي المقابل تلتزم الأمة له بالطاعة.[12] إضافة إلى ذلك، فإن الأمة لديها الحق في محاسبة الحاكم وعزله إذا أخل ببنود هذا التعاقد،[13] بعبارة أخرى، فإن طاعة الأمة للحاكم ترتكز على قناعتها بقانونية القواعد المُشرّعة وبحق أولئك الذين في السلطة في إصدار هذه القواعد، وهو ما وصف به ماكس فيبر الهيمنة القانونية.[14]

وبالتالي، يتبنى الإسلامويون الديمقراطيون المفهوم الحديث للمواطنة، فهم يعتقدون أن الأمة في الدولة الإسلامية هي مصدر السلطات وهي المالكة للسيادة العليا بخصوص أمور الحكم، ويضيف الغنوشي أن هناك حزمة من الحريات السياسية التي يجب ضمانها لمواطني الدولة الإسلامية، مثل الحق في المشاركة في الحكم، الحق في الاجتماع وتكوين الروابط، والحق في تداول المعلومات .. إلى غير ذلك.[15] حتى بالنسبة لغير المسلمين يشير الغنوشي إلى الآية القرآنية "لا إكراه في الدين" (سورة البقرة: 256)، وإلى الحديث النبوي "الناس ساسية كأسنان المشط" كقواعد ذهبية تُستقى منها حقوق الأقليات الغير مسلمة في الدولة الإسلامية،[16] إلا أنه وصف مواطنة غير المسلمين في الدولة الإسلامية بأنها نمط خاص من المواطنة، لا يجوز فيها لغير المسلمين أن يتولوا بعض المناصب الحساسة مثل الولاية العامة، لكنه يذكر أن هذه الاستثناءات محدودة جدا بحيث لا تخرق القاعدة العامة للمساواة في الدولة الإسلامية.[17]

بخصوص هيكل وتوزيع السلطة في النظرية الديمقراطية للدولة الإسلامية، فإن الإسلامويين الديمقراطيين يتبنون مبدأ الفصل بين السلطات، وذلك كنتيجة لتعقد المجتمعات الحديثة من جهة، وكأحد العلاجات الناجعة للاستبداد السياسي من جهة أخرى.[18] وبالرغم من أن بعض الأكاديميين مثل محمد أسد وعبد الرزاق السنهوري قد أكدوا على الطبيعة المركزية للسلطة السياسية في الدولة الإسلامية كما كانت في عهد الخلفاء الراشدين وعهد النبي صلى الله عليه وسلم،[19] وبالرغم من أن العديد من الأحاديث النبوية ترسم للإمامة صورة لسلطة مشخصنة وشديدة المركزية،[20] إلا أن داعمي مبدأ الفصل بين السلطات في نموذج الدولة الإسلامية يرون أن هذه السوابق التاريخية غير ملزمة، وأن مصلحة الأمة تقتضي مثل هذا الفصل لمنع تركز السلطة الذي يفضي إلى الاستبداد.[21]

ومن جهة أخرى، فإن هناك من الأكاديميين يؤمنون أن الدولة الإسلامية التقليدية كانت النموذج الأول لتطبيق مبدأ الفصل بين السلطات، وذلك بإعطاء العلماء المسلمين حصريا حق التشريع بدون أي تدخل من الإمام.[22] ويشير توفيق الشاوي أن هناك فصلا عضويا في الدولة الإسلامية بين التمثيل السياسي للأمة عن طريق أهل الحل والعقد، والذين يخولون مهام اختيار الحاكم ومراقبته، وبين التمثيل الديني للأمة عن طريق العلماء والفقهاء، والذين يتولون مسؤولية التشريع، وهذا الفصل العضوي هو ضمانة أساسية لمنع الاستبداد وإساءة استخدام السلطة التشريعية من قبل التنفيذيين.[23]

 

 

[1] راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية ج1، دار الشروق، القاهرة،2012، ص: 246-247.

[2] Azzam Tamimi, Rachid Ghannoushi: A Democrat within Islamism (London: Oxford University Press, 2001),100.

[3] الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية ج1، ص: 183

[4] المصدر السابق، ص: 256.

39. يوسف القرضاوي، من فقه الدولة في الإسلام، دار دار الشروق، القاهرة،2001، ط3، ص: 144-146.

[6] Azzam Tamimi, “Islam and Democracy from Tahtawi to Ghannouchi”, Theory, Culture & Society 24, 2 (2007): 54.

[7]  المصدر السابق.

[8] يوسف القرضاوي، من فقه الدولة في الإسلام، ص:132.

[9] المصدر السابق.

[10] الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية ج1، 133

[11] Tamimi, Rachid Ghannoushi: A Democrat within Islamism, 104.

[12] Ibid.,217.

[13]  القرضاوي، من فقه الدولة في الإسلام، 136.

[14] Pierson, The modern state, 18.

[15] Tamimi, Rachid Ghannoushi: A Democrat within Islamism, 79-80.

[16] Ibid., 76.

[17] راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية ج2، دار الشروق، القاهرة،2012، ص:145.

[18] المرجع السابق، 57.

[19] Asad, The principles of the state and government in Islam,52-58.

السنهوري، فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية، ص: 159، 175-189.

[20] الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية ج2، ص: 59.

[21] المصدر السابق، ص:56-57.

[22] القرضاوي، من فقه الدولة في الإسلام، 39.

[23] الشاوي، فقه الشورى والاستشارة، 433-433

Powered by TayaCMS