الإخوان المسلمون والغرب-2 (رؤیة سید قطب للغرب)
محمد فتحي النادي
امریکا التی رأی سید قطب
عاش الأستاذ سيد قطب ردحًا من الزمن في أمريكا، وقد خرج بتصور عنها وعن الغرب بصفة عامة؛ إذ كانت أمريكا في ذلك الوقت هي قاطرة العالم المتحضر، والزعيمة السياسية بلا منازع، بعد أفول نجم أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، والقوة الباطشة وشرطي العالم.
هذا التصور يدور حول استبعاد أمريكا والغرب للقيم والأخلاق والمثل، وترسيخ الحضارة المادية المتوحشة التي أنست الإنسان إنسانيته وجعلته مجرد آلة.
ويرى أن العبقرية الأمريكية "قد تجمعت وتبلورت في حقل العمل والإنتاج، بحيث لم يبق فيها بقية تنتج شيئًا في حقل القيم الإنسانية الأخرى"([1]).
ويرى أن هذه العبقرية كان يمكن للبشرية أن تستفيد منها "فتضيف قوة ضخمة إلى قواها، ولكن هذه البشرية تخطئ أشنع الخطأ، وتعرض رصيدها من القيم الإنسانية للضياع، إذا هي جعلت المثل الأمريكية مثلها في الشعور والسلوك…
إن ذلك لا يعني أن الأمريكان شعب بلا فضائل، وإلا لما أمكنه أن يعيش، ولكنه يعني أن فضائله هي فضائل الإنتاج والنظام، لا فضائل القيادة الإنسانية والاجتماعية"([2]).
ونتيجة لتنحية القيم والأخلاق من قاموسهم السياسي والعملي، فهو يراهم أصحاب "ضمير متعفن، وحضارة زائفة، وخدعة ضخمة اسمها (الديمقراطية) يؤمن بها المخدوعون.
إنهم جميعًا يصدرون عن مصدر واحد، هو تلك الحضارة المادية التي لا قلب لها ولا ضمير، تلك الحضارة التي لا تسمع إلا صوت الآلات، ولا تتحدث إلا بلسان التجارة، ولا تنظر إلا بعين المُرابي، والتي تقيس الإنسانية كلها بهذه المقاييس"([3]).
ويفصّل في معايب هذه الحضارة فيقول: "حضارة تأخذ ولا تعطي، وتجرح ولا تأسو.
حضارة أنانية صغيرة مهما بدت من الخارج ضخمة ذات بريق وضجيج.
إنها حضارة زائفة؛ لأنها لم تقدم للإنسانية زادًا من الروحية، ولم تحاول رفع الآدمية عن قانون الوحوش"([4]).
فسيد قطب يبحث عن الإنسانية، ومن هذه الرؤية رأى أن الحضارة الغربية لم يكن لديها العلم بحقيقة هذا الإنسان وخصائصه، كما أنها لم تكن لديها الرغبة في احترامه وتكريمه، وذلك كله لانفصالهم عن الدين ومحاربتهم له؛ فهو يرى أن "الحضارة المادية الحديثة نشأت في جو الشرود من الكنيسة، والنفور من ظلها، ومن ظل الدين.. كل الدين..
ولم تكن لديهم الرغبة؛ لأن أية محاولة لتكريم الإنسان، كانت ستذكر بمركزه الذي يعطيه الدين له.. وكل شيء كان جائزًا في أوروبا إلا أن تجيء سيرة الدين. وأن تكون لهذا الدين أية علاقة بأوضاع الإنسان (المدنية) وبالنظم الاجتماعية والاقتصادية، وبعلاقات العمل وارتباطاته وطرائقه الفنية! بل كانت تتوافر عندهم الرغبة المضادة والحرص البالغ، على تحقير الإنسان، وتدنيسه وتلويثه، وإثبات حيوانيته وقذارته الجنسية من جهة، وضآلة دوره إزاء المادة وقوانينها الحتمية، والاقتصاد وإرادته القاهرة منجهة أخرى، كأنما هم أعداء لهذا (الجنس الإنسان)"([5]).
وإذا كان الإمام البنا تكلم عن إفلاس الحضارة الغربية، فقد رأى الأستاذ سيد قطب كذلك أن البشرية تقف "حافة الهاوية.. لا بسبب التهديد بالفناء المعلق على رأسها.. فهذا عَرَضٌ للمرض وليس هو المرض.. ولكن بسبب إفلاسها في عالم (القيم) التي يمكن أن تنمو الحياة الإنسانية في ظلالها نموًّا سليمًا وتترقى ترقيًّا صحيحًا. وهذا واضح كل الوضوح في العالم الغربي، الذي لم يعد لديه ما يعطيه للبشرية من (القيم)"([6]).
الهجوم هو الاولی
ويرى الأستاذ سيد قطب أن المسلمين ليسوا في حاجة أن يكونوا في وضع الدفاع والتبرير تجاه الشبهات التي يلقيها الغرب ضد الإسلام والمسلمين، بل الهجوم عليهم هو الأولى؛ لأنه "إذا كان هناك من يحتاج للدفاع والتبرير والاعتذار فليس هو الذي يقدم الإسلام للناس، وإنما هو ذاك الذي يحيا في هذه الجاهلية المهلهلة المليئة بالمتناقضات وبالنقائض والعيوب، ويريد أن يتلمس المبررات للجاهلية. وهؤلاء هم الذين يهاجمون الإسلام ويلجئون بعض محبيه الذين يجهلون حقيقته إلى الدفاع عنه، كأنه متهم مضطر للدفاع عن نفسه في قفص الاتهام!
بعض هؤلاء كانوا يواجهوننا -نحن القلائل المنتسبين إلى الإسلام- في أمريكا في السنوات التي قضيتها هناك -وكان بعضنا يتخذ موقف الدفاع والتبرير.. وكنت على العكس أتخذ موقف المهاجم للجاهلية الغربية.. سواء في معتقداتها الدينية المهلهلة، أو في أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية المؤذية..
وكانت هذه حقائق نواجهها في واقع الحياة الغربية.. وهي حقائق كانت تخجل أصاحبها حين تعرض في ضوء الإسلام.. ولكن ناسًا -يدّعون الإسلام- ينهزمون أمام ذلك النتن الذي تعيش فيه الجاهلية، حتى ليتلمسون للإسلام مشابهات في هذا الركاب المضطرب البائس في الغرب. وفي تلك الشناعة المادية البشعة في الشرق -أيضًا"([7]).
وقد رأى أنه ما دام هذا حال الغرب من الانحراف الأخلاقي والقيمي، وعدم صلاحه لقيادة الإنسانية، وتوحشه المادي فلن ينال أحد استقلاله، فقال: "فأما إذا كنت تبغي الخلاص من براثن الوحش الغربي، فهناك طريق واحد لا تتشعب فيه المسالك، فهو أقرب طريق، اعرِف نفسك وراجع قواك، واستعد للصراع، وابدأ في الكفاح، ولا تستمع إلى صوت خادع يوسوس لك بالثقة بضمير الغرب المدخول.
وأما إذا كنت تبغي الراحة مع ذلك الجيل المكدود المهدود من الساسة المترفين الناعمين، فأمامك طرق كثيرة ذات شُعب ومسالك، وذات منعرجات ودروب. هناك: المفاوضة، والمحادثة، وجس النبض واستطلاع الآراء"([8]).
فسيد قطب ينظر للغرب المحتل الذي يقود العالم في الاتجاه الخاطئ؛ لذا كان هجومه الدائم على الغرب، والدعوة للتخلص من سيطرته على أراضي المسلمين وطرده ودحره، وليس هذا فحسب، بل عدم جعله القدوة لمن أراد النهوض؛ لما في الغرب من ازدواجية في المعايير، فالغرب يدعو للديموقراطية ويساند الديكتاتوريات في بلاد الشرق، ويدعو إلى حقوق الإنسان، والغرب هو أول من يدهسها بقدمه إذا تعارضت مع مصالحه.
([1]) سيد قطب: أمريكا التي رأيت، ص(5).
([3]) سيد قطب: الضمير الأمريكاني واللعبة الأمريكية (مقالة)، مجلة الرسالة، العدد (694)، 21/10/1946م.
([5]) سيد قطب: الإسلام ومشكلات الحضارة، ص(110).
([6]) سيد قطب: معالم في الطريق، دار الشروق، الطبعة السادسة، 1399هـ - 1979م، ص(3).
([7]) السابق، ص(160) باختصار.
([8]) مقالة الضمير الأمريكاني.