اقرأ في هذا المقال

في هذا الجو ظهرت جماعة الإخوان المسلمين داعية الأمة إلى التمسك بالمنهج الرباني القويم، والعمل على إعادة الاعتبار للأمة

"لا نكون أسرى لما نتلقى عن الغرب بغير نظر أو تبصر"

إن مدنية الغرب، التى زهت بجمالها العلمى حينًا من الدهر، وأخضعت العالم كله بنتائج هذا العلم لدوله وأممه، هى الآن تفلس وتندحر, وتندك أصولها، وتنهدم نظمها وقواعدها

ورغم كل ما سردناه إلا أن الإمام البنا لم ير قطع العلائق مع الغرب، بل رد على من يظن أن نظم الإسلام فى حياتنا الجديدة تباعد بيننا وبين الدول الغربية

 

الإخوان المسلمون والغرب-1 (رؤیة البناء للغرب)

محمد فتحي النادي

الإخوان و الغرب

بعد عصر النهضة الأوروبية والثورات الصناعة الهائلة التي أحدثت انقلابًا غيّر وجه العالم، فقد فاقت أوروبا غيرها من بلدان الشرق والغرب قاطبة.

وكانت النهضة تسير في خطوط متوازية؛ فالنهضة في الصناعة تقابلها نهضة في الأفكار والفلسفات والأيديولوجيات... إلخ.

هذا التغيير الشامل دفع أوروبا أن تعيد اكتشاف نفسها من جديد، وتحاول إعادة أمجاد روما القديمة.

فانظلقت في العالم محاولة السيطرة عليه بقوة السلاح والأفكار.

وكان للعالم الإسلامي والعربي حظه من الاحتلال الذي امتد لفترات طويلة وصلت في بعض البلدان والدول -مثل الجزائر- إلى 130 سنة.

وقد حاول الاحتلال الغربي للبلدان العربية أن يستنزف خيراتها واستعباد شعوبها، إلى جانب مسخ الهوية، والذي كان أقسى على الشعوب من استنزاف الموارد والخامات.

وقد سبق الاحتلال للعالم العربي إسقاطه للخلافة الإسلامية التي كانت في أضعف حالاتها وأسوئها، ولم تجد الخلافة لها الظهير الشعبي الذي يؤازرها ويشد من عضدها، ويمنع عنها هذا السقوط المريع.

في هذا الجو ظهرت جماعة الإخوان المسلمين داعية الأمة إلى التمسك بالمنهج الرباني القويم، والعمل على إعادة الاعتبار للأمة، ونفض غبار الجهل والتخلف، والعمل على بعث النهضة الحديثة على أسس إسلامية صافية نقية بعد عملية التغريب والعلمنة التي تعرضت لها الأمة، والعمل على إعادة الخلافة الإسلامية وبعثها من جديد، والعمل على ذلك بخطوات متدرجة تبدأ من الفرد وتنتهي بأستاذية العالم.

 

 

رؤية البناء للغرب

عاش الإمام البنا في الوقت الذي كان الاحتلال الانجليزي جاثمًا على صدر مصر، وقد كان الشعب المصري يناضل لنيل حريته واستقلاله.

وقد استطاع الاحتلال أن يزرع فئة مؤمنة به كل الإيمان، ولا ترى سبيلاً للنهوض إلا باتباع النهج الغربي في كل شيء حتى في اللباس والطعام.

وكان الإمام البنا قد رأى هذا الافتتان الحاصل بالغرب، واعتبر أن تقليد الغرب من غير تبصر ولا تقدير لعواقب الأمور بلاء داهم([1]).

وقد أراد التحرر من أسر هذه التبعية فقال: "لا نكون أسرى لما نتلقى عن الغرب بغير نظر أو تبصر"([2]).

فهو يبحث عن الاستقلالية عن الغرب مبتعدًا عن التقليد المقيت، ووضح ذلك بقوله: "نحن نريد الفرد المسلم، والبيت المسلم، والشعب المسلم، ولكنا نريد قبل ذلك أن تسود الفكرة الإسلامية حتى تؤثر في كل هذه الأوضاع وتصبغها بصبغة الإسلام، وبدون ذلك لن نصل إلى شيء.

نريد أن نفكر تفكيرًا استقلاليًّا يعتمد على أساس الإسلام الحنيف، لا على أساس الفكرة التقليدية التى جعلتنا نتقيد بنظريات الغرب واتجاهاته في كل شيء.

نريد أن نتميز بمقوماتنا ومشخصات حياتنا كأمة عظيمة مجيدة تجر وراءها أقدم وأفضل ما عرف التاريخ من دلائل العظمة، ومظاهر الفخار والمجد"([3]).

 

الغرب مفلس

ولم يقف عند هذا الحد من الاستقلالية والبعد عن التقليد للغرب في كل شيء، بل رأى أن الغرب مفلس، ودلل على ذلك بأدلة منها: "إفلاس الأصول الاجتماعية التى قامت عليها حضارة الأمم الغربية؛ فحياة الغرب التى قامت على العلم المادى والمعرفة الآلية والكشف والاختراع وإغراق أسواق العالم بمنتجات العقول والآلات، لم تستطع أن تقدم للنفس الإنسانية خيطًا من النور، أو بصيصًا من الأمل، أو شعاعًا من الإيمان، ولم ترسم للأرواح القلقة أي سبيل للراحة والاطمئنان، وليس الإنسان آلة من الآلات؛ ولهذا كان طبيعيًّا أن يتبرم بهذه الأوضاع المادية البحتة، وأن يحاول الترفيه عن نفسه.

ولم تجد الحياة الغربية المادية ما ترفه به عنه إلا الماديات -أيضًا- من الآثام والشهوات، والخمور والنساء والأحفال الصاخبة، والمظاهر المغرية التى تلهى بها حينًا، ثم ازداد بها بعد ذلك جوعًا على جوع، وأحس بصرخات روحه تنطلق عالية تحاول تحطيم هذا السجن المادي والانطلاق في الفضاء، واسترواح نسمات الإيمان والعزاء"([4]).

وقد قال: "إن مدنية الغرب، التى زهت بجمالها العلمى حينًا من الدهر، وأخضعت العالم كله بنتائج هذا العلم لدوله وأممه، هى الآن تفلس وتندحر, وتندك أصولها، وتنهدم نظمها وقواعدها, فهذه أصولها السياسية تقوضها الدكتاتوريات، وأصولها الاقتصادية تجتاحها الأزمات, ويشهد ضدها ملايين البائسين من العاطلين والجائعين, وأصولها الاجتماعية تقضي عليها المبادئ الشاذة والثورات المندلعة في كل مكان، وقد حار الناس في علاج شأنها وضلوا السبيل, مؤتمراتهم تفشل, ومعاهداتهم تخرق, ومواثيقهم تمزق, وعصبة أممهم شبح لا روح فيه ولا نفوذ له, ويد العظيم فيهم توقع مع غيره ميثاق السلام والطمأنينة في ناحية, بينما تلطمه اليد الثانية من ناحية أخرى أقسى اللطمات, وهكذا أصبح العالم -بفضل هذه السياسات الجائرة الطامعة- كسفينة فى وسط اليم, حار ربانها، وهبت عليها العواصف من كل مكان"([5]).

 

مهاجمة التعصب عند الغرب

وقد هاجم الإمام البنا التعصب عند الغرب لنفسه، واعتدائه على الشرق، وعدم إنصافهم لشعوب الشرق، وكره التقسيم العنصري الذي كرّسه الغرب ما بين الشرق والغرب، فجعل الشرق يتعصب لنفسه مقابل تعصب الغرب لنفسه، وعلل تعصب الشرق لنفسه بأن الذي ولده وأوجده "اعتزاز الغرب بحضارته وتغاليه بمدنيته، وانعزاله عن هذه الأمم التى سماها الأمم الشرقية، وتقسيمه العالم إلى شرقي وغربي، وندائه بهذا التقسيم حتى فى قولة أحد شعرائه المأثورة: (الشرق شرق، والغرب غرب، ولا يمكن أن يجتمعا). هذا المعنى الطارئ هو الذى جعل الشرقيين يعتبرون أنفسهم صفًّا يقابل الصف الغربي.

أما حين يعود الغرب إلى الإنصاف، ويدع سبيل الاعتداء والإجحاف، فستزول هذه العصبية الطارئة، وتحل محلها الفكرة الناشئة، فكرة التعاون بين الشعوب على ما فيه خيرها وارتقاؤها"([6]).

ورغم كل ما سردناه إلا أن الإمام البنا لم ير قطع العلائق مع الغرب، بل رد على من يظن أن نظم الإسلام فى حياتنا الجديدة تباعد بيننا وبين الدول الغربية، وتعكر صفو العلائق السياسية بيننا وبينها، واعتبره ظنًّا عريقًا في الوهم([7]).

ورغم ذلك فإن من المشهور أن الغرب قد وقف وراء اغتيال الإمام البنا بطريقة ما، وقد فرحت أمريكا أشد الفرح بعد سماع نبأ مقتله على ما ذكره الأستاذ سيد قطب.

 

([1]) انظر: الإمام حسن البنا: الدستور والقرآن (مقالة)، جريدة النذير، العدد (31)، السنة الأولى، 11ذو القعدة 1357 /3 يناير 1939، ص(3-5).

([2]) انظر: الإمام حسن البنا: حول قرض القطن (مقالة)، جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (26)، السنة الأولى، 3رجب 1365/ 3 يوليو1946، ص(3).

([3]) حسن البنا: مجموعة رسائل الإمام البنا، تحقيق: محمد فتحي النادي، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1427ه - 2006م، ص(497).

([4]) السابق، ص(674).

([5]) السابق، ص(159).

([6]) السابق، ص(687-688).

([7]) السابق، ص(171).

Powered by TayaCMS