قراءة من الداخل
في العقل السياسي لحركة النهضة-2
محمد العقربي
سؤال في الهوية
من أكثر الأسئلة مطروحة اليوم على حركة النهضة، وهي تستشرف مستقبلها في تونس (المحفوف بالتحديات ) هو النجاح في رهان التطوير والتجديد بما يستجيب لحاجيات البلاد وينفع الناس،وليس الدخول في سجالات ايديلوجية عقيمة، اذ الْوَاجِب يفرض دعم تمشي النهضويين في هذا الاتجاه الذي تحتاجه تونس، بدل التفنن في صنع الكوابح وبناء السواتر
ان الفصل الاول من الدستور التونسي، وبغض النظر عن حجم الاختلاف في تأويل نصوصه، قد وحد التونسيين حول الحد الأدنى المشترك والمتفق حوله، باعتبار ان دينهم الاسلام، ولغتهم الرسمية العربية، ونظامهم السياسي جمهوري. ومن دون جدل حول طبيعة دولتهم، فهم لا يختلفون في كون هويتهم العامة على صلة وثيقة بالإسلام، مع الإقرار بتعدد المكونات التاريخية التي تراكمت على تونس، فالدول الحديثة لا تتمايز كثيرا من ناحية وظائفها واجهزتها العامة، ولكن المجتمعات والشعوب تتمايز من جهة منظوماتها الاخلاقية والروحية. ولعل النموذج الأفضل والاصوب لتونس هو وجود دولة تحترم قيم الاسلام وسائر المكونات الدينية والثقافية، ولكنها لا تتدخل في خيارات الناس من اعتقاد وملبس وذوق وفق مقتضيات الدستور.
ان كلمة علماني وبالأحرى مصطلح لائكي، هي من اكثر المصطلحات غموضا والتباسا سواء في الاستخدام الاصطلاحي او على صعيد الحقل الدلالي، ويكفي المرء ان يتصفح بعض المعاجم الأوروبية العريقة مثل اكسفورد الانجليزي أو لاروس الفرنسي حتى يجد نفسه امام كم هائل من المصطلحات والمرادفات لا حصر لها، بل ان الامر يزداد تعقيدا في المجال العربي الاسلامي حيث لم يستقر هذا المفهوم على الحد الأدنى المتفق حوله. وإذا كان تعريف العلمانية في بعدها السياسي يتراوح بين من يختصره في فصل الدين عن الدولة، وبين من يوسع ذلك الى فصل الدين عن السياسة و سائر المناشط الاخرى، الا ان الطابع الإشكالي للعلمانية لا يتعلق بالجانب السياسي بقدر ما يتعلق بالبعد الثقافي والقيمي العام، فيما يمكن تسميته ببعد التجاوز او التعالي الذي يطبع الأديان التوحيدية عامة، أي في النزوع المادي او الدهري الذي يسم نظريات العلمنة التي تشكلت مقولاتها النسقية منذ بدايات القرن التاسع عشر،( أمثال فويرباخ وماركس ونيتشة) . ولعل اكثر التعاريف شيوعا في هذا الصدد، هو الذي أطلقه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر بتعريف العلمانية بكونها تعني بنزع الهالة الروحية عن العالم، وإفراغه من المعنى، وذلك بغلبة النظرة المادية التي تعطي الاولوية للوسائل والاجراءات على حساب كل الاعتبارات الدينية والأخلاقية في إطار ما اسماه بالقفص الحديدي للحداثة. ولا أتصور ايا من الأحزاب السياسية التونسية يمكن ان يجد نفسه، او يحبذ ان يضع نفسه ضمن المربع العلماني بهذا المعنى
هذه بعض السياقات الفكرية التي تؤطر العقل السياسي لحركة النهضة عند تفكيك اشكال الهوية في علاقته بالدولة و بالعقد الإجتماعي و القانون و المؤسسات . العقل السياسي لحركة النهضة أظهر قدرة كبيرة على استيعاب الدرس الغربي في تعاطيه مع مسألة الدين وهوية الدولة
وفي الجملة يمكن القول ان خيارات الهوية او ما يعبر عنه بالمشاريع المجتمعية لا ترتبط برغبات الأفراد او النخب الأيديولوجية بقدر ما ترتبط بحركة المجتمعات ومصائرها العامة وما يشقها من صراعات ظاهرة وخفية، ومن توافقات وتسويات عامة.وبهذا المعنى نقول ان موقع الدين في المجتمع والحياة العامة، وكذا الامر بالنسمة لخيار العلمنة هو حصيلة التفاعلات الاجتماعية والسياسية، وليس قرارا فوقيا تمليه النخب او المجموعات الأيديولوجية. يخطىء السلفيون حينَما يتصورون ان المجتمع التونسي هو عبارة عن عجينة طيعة لتصوراتهم الدينية المستمدة من قراءة نمطية واختزاليتهم للنصوص الدينية والفقهية، مثلما يخطئ اليساريون الراديكاليون، حينما يتخيلون ان المجتمع التونسي سيكون مرآة عاكسة، لتصوراتهم العلمانية الجذرية. ان طريقة العلمنة الفوقية او الأسلمة الفوقية عبر استخدام اجهزة الدولة، هي خيار فاشل، وغالبا ما يقترن ذلك بالاكراه والتسلط وما هو مطروح على حركة النهضة هو تعميق توجهها الحداثي ومزيد من الانفتاح على المحيط والطاقات التونسية في إطار حزب حداثي عصري ولكنه متجذر في الهوية العربية الاسلامية لتونس، وهذا هو المعنى الرئيسي للتواصل مع تراث المدرسة الإصلاحية التونسية
سؤال المؤتمر
بعد أسابيع قليلة تعقد النهضة مؤتمرها العاشر والثاني في كنف العلنية. المؤتمر المرتقب لن يكون عاديا بكل المقاييس في ضوء انتظارات بسقف مرتفع من التونسيين عموما ومن النهضويين خصوصا بعد سنوات من المخاض الصعب والمتواصل، جمعت فيها النهضة شتاتها في وقت قياسي وفازت في انتخابات قادتها الى تجربة حكم لم تعمر طويلا وان تحولت بفعل شجاعة رئيسها الشيخ راشد الغنوشي الى استثناء تونسي في زمن الانقلابات والانكسارات.
لقد خيبت النهضة أمل كثيرين من انصارها ومواطنيها باداء حكومي يحتاج الى مزيد من التمحيص والتدقيق والتمييز بين النجاح والفشل والعجز عن ابلاغ النجاح او تفسير الأسباب الحقيقية للوهن والضعف. ولكن خروجها المشرف من الحكومة أعاد توزيع الأوراق الى حين.
كما رفضت النهضة مواصلة المواجهة و الانجرار الى العنف المسلح في التسعينات، لم تتمسك بمقعد متحرك في سفينة تغرق سنة 2013. فتم إنقاذ التجربة / الثورة، في انتظار الإجابة عن الأسئلة التي نجح خصومها الى حد كبير في استخدامها بمنطق التأليب والتجييش والشيطنة والتحريض.
والنهضة يبدو انها تعلمت ان تدفع فاتورة اخطائها تقف الان امام لحظة تاريخية ,
لحظة مصارحة ومراجعة ونقد وطبعا لحظة طرح البديل.
هذا ما أراده في و بات يقوله كثير من مناضلي الحركة دون خجل او خوف: نعم نحن نعترف بأن الزمن تغير ولم يعد ثمة دكتاتور لنواجهه ولا سجن او منفى ولم تعد بنا حاجة الى البقاء في مربع الاسلام الاحتجاجي
ثمة الان ديمقراطية ناشئة تبحث عن نخبة سياسية مسؤولة قادرة على قيادة البلاد نحو شاطئ الأمان الاقتصادي والامني والاجتماعي والسياسي... هذه النخبة بكل مكوناتها، اسلاميون ودساترة ويسار وقوميون وتكنوقراط... مطالبة بان تكون في مستوى قيادي رفيع، لن يشفع لها الماضي ولا الشعارات الفضفاضة من زمن الثورة او ما قبلها. شعبنا ينتظر حلولا وبرامج وخطابا سياسيا مقنعا نابعا من الواقع. هذا ما يجعل مناضلي النهضة و هم في أفق المؤتمر العاشر امام مسؤولية تاريخية وتحد كبير :.هل سينجحون في تحقيق الحلم بنهضة جديدة تقطع مع تراث مواجهة الدكتاتورية والصراع مع الدولة، ليؤسسوا حزبا بمضامين عصرية انطلاقا من مرجعيتنا الاسلامية التي حولتها الثورة الى مرجعية جامعة للدولة والمجتمع بمختلف اطيافه؟
هذه النقطة بالذات وجب التوقف عندها، في ارتباط اولا : بمحاولة فاشلة من بعض الأطراف داخل النهضة وخارجها لتلبيس بعض المفاهيم وتصوير الدعوة للإصلاح كمسار لعلمنة النهضة، وهو تكتيك قديم / جديد لاستثارة العواطف ودغدغة المشاعر وكأن الجمهور المستهدف مجموعة من الاغبياء والبسطاء.
وثانيا: بمخاوف قطاعات من المواطنين وخاصة النساء والشباب من ان النهضة تُمارس الخطاب المزدوج وأنها تقول في الظاهر ما تخفيه من أجندة سرية لتغيير النمط المجتمعي والتي يعتبرها بعض خصومنا وحتى جزء من النخبة التونسية المعتدلة التي فشل مناضلي الحركة او قصروا في التواصل معهام .
تختلط النيران «الصديقة» بنيران التشكيك والتحريض.
ان عملية الاصلاح التي يقودها رئيس الحركة الشيخ راشد الغنوشي تقوم على مفهوم مركزي هو التعايش بين ابناء الوطن الواحد سواء أكانوا من العلمانيين او الإسلاميين هذا اذا بقي لهذه التصنيفات الايديولوجية من معنى بعد ان حررت الثورة الدولة من الصدام التاريخي بينها وبين الهوية وفتحت مجال الحرية واسعا امام ممارسة الشعائر والانتظام المجتمعي وغيرت طبيعتها من دولة مركزية قاهرة الى دولة تستمد شرعيتها من صناديق الاقتراع.
فالتعايش يعني ضرورة ان الاسلامي يبقى اسلاميا والعلماني يبقى علمانيا وان الرابط بينهما هو أساس العيش المشترك اي المواطنة كما فصلها الدستور وما ينبثق عنه من قوانين والانتماء للوطن والدفاع عن رايته.
إن حين الدعوة الى المصالحة والعفو والتقارب مع بنية النظام القديم وتطوير النهضة وتحرير الاسلام من اسر الصراع السياسي باعتباره المرجعية الجامعة لكل التونسيين عقيدة او ثقافة. لا يعني ذلك بالضرورة السير في اتجاه العلمنة؟. وحين تسمع من الخصوم شهادة في الاعتراف بمدنية النهضة وبأنها دعامة أساسية للتوافق هل يعني ذلك انهم تحولوا الى اسلاميين؟
لقد حدد القانون التونسي جيدا ضوابط العمل الحزبي و حركة النهضة برنامجا وهيكلة ونشاطا ليس فيها ما يستدعي المراجعة من هذه الناحية. فالحزب قانوني وهذا واجب وليس منة. أين المشكلة إذن؟ ولماذا تحتاج النهضة مؤتمرا للمراجعة والتجديد؟
اعتقد ان الجدل حول السياسي والدعوي استنزف طاقات كثيرة وخاصة من الذين توقفت معرفتهم بالنهضة عند انتمائهم للجماعة الاسلامية او عند صراعات الجامعة التي لم يتخلص منها البعض.
الجدل يوحي بوجود حركتي نهضة واحدة في الظاهر والأخرى في الخفاء تمتد في دهاليز تنظيم دولي جزء صنعته مخيلة الأجهزة في أنظمة ما قبل الربيع العربي وجزء صنعه سلوك وخطاب قطاعات من الاسلاميين، او في عصر الانقلابات.
ثمة من يتصور بان النهضة هي مجرد فرع للإخوان المسلمين وليست حزبا حاملا لكل هذا التاريخ بزعيم في حجم راشد الغنوشي. لهؤلاء أقول فقط اذا تاملتم تجربتي تونس ومصر بموضوعية الآن فهل ستجدون العلاقة بين الإسلاميين هناك وهنا علاقة فرع يتبع الأصل، وهامش يتلقى تعليماته من الأصل؟
ولكن يجب ان نعترف انه في عالم السياسة اذا تواتر فهم معين لمسالة ما فالمشكلة تكمن في الخطاب الذي يصدره المرسل فمن هنا وجب على المؤتمر القادم حسم هذه المسألة نهائيا وبكامل الوضوح..
ان هواجس مناضلي النهضة مرتبطة بوضوح باستكمال مسار التونسة وهو مسار لا يخص النهضة فقط بل كل الاحزاب التي بدأت ايديولوجية في مواجهتها لحكم الاطلاق، لتجد نفسها بعد الثورة امام دولة منفتحة تدار بالبرامج والسياسات لا بالتنظيمات المغلقة ولا الشعارات الثورجية .
كيف تستكمل النهضة مسار التونسة الذي بدأ بإعلان ولادة الاتجاه الاسلامي كاول حركة اسلامية تتبنى الديمقراطية خيارا، وتدعم بالتخلي عن شعار «الاسلامي» مع ولادة النهضة وترسخ بالنقاشات التي تمت في الداخل والخارج في السنوات الاخيرة للمحنة للتعجيل بالذهاب نحو حزب عصري يقطع مع الراسب المتبقي من فترة التأسيس الاول الذي لم نتمكن من رسكلته في فضاء ديمقراطي وطني.
مسار التونسة لم يبدأ اليوم في النهضة بل بدأ في سنة 1989 ولكنه اصطدم للأسف بموقف عدمي من النهضة من قبل الدولة وجزء من النخبة قبل الثورة وببطء وتردد داخلي دون شك في الدفع نحو الانفتاح الواسع .
الان تغير الوضع في رغم عودة بعض الأطراف لوضع التخويف والشيطنة ورغم ما يشوب النقاشات الداخلية من توتر واتهامات وهو ما يعني ان المؤتمر القادم قد يكون ( و الله أعلم ) مؤتمر استكمال مسار التونسة لتتحول النهضة من حزب احتجاجي معارض للدولة الى حزب عصري وطني منفتح مؤهل للمساهمة في تسيير دولة الحرية والديمقراطية والتنمية
إنّ ما يدفع لطرح هذه الأسئلة هو الانطباع الحاصل لدينا أنّ التيّار الإسلامي في تونس ظاهرة صحيّة واستجابة ضروريّة تلقائيّة لحاجات اجتماعيّة وثقافيّة وسياسيّة واقتصاديّة ملحّة ستبقى قائمة الذّات طالما لم تنهض الدّولة الوطنيّة والنّخب والمجتمع بهذه الأعباء، كما تأكّدت لدينا قناعة يؤكّدها الواقع أنّ أبناء هذا الشّعب الطيّب من الإسلاميين والإسلاميّات قادرون لو تجاوزوا العوائق الذّاتيّة الهيكليّة والتّركة الثّقيلة من التّجارب السّابقة وتوفّر مناخ الحريّات في البلاد أن يكونوا رصيدا بشريّا للإصلاح والتّنمية ودعم المكتسبات وتحصين المجتمع وحماية الحقوق والحريّات وتوفير الضّمانات الماديّة والمعنويّة التي تشجّع المجتمع السّياسي والمدني على انتهاج مسار الدّيمقراطيّة التّوافقيّة التي يتقاسم فيها الجميع الأعباء والمنافع.
إنّ المسؤوليّة الأخلاقيّة للمناضل النهضوي ـ الذي نشأ في رحاب الفعل الواعي و المسؤول والمعرفة النّقديّة ـ بعد أن انخرط سنوات في مناكفة الدّولة والخصوم السّياسيين وتبنّي منهج التّغيير الشّمولي والسّلوك الثّوري أن يحمل على عاتقه المساهمة في بناء تعاقد اجتماعي يرسّخ الثقة بين كلّ مكوّنات الوطن ويؤسّس لحوار وطني بنّاء يخفض فيه الجميع الجناح لمخالفيهم دون الحرمان من حقّ النّقد البنّاء وفضّ المسائل العالقة.
إنّ العزلة بين الدّولة وجزء من مكوّنات المجتمع ـ ضاقت أو توسّعت ـ لا يمكن إلاّ أن يخدم الأطماع الخارجيّة ويدفع إلى انتهاج الحلول السّهلة من كلى الطّرفين لفضّ إشكالات الدّاخل عبر الاستنصار بالخارج مهما كان الشّكل والموقع والمبرّرات والأهداف. لقد بيّنت الأحداث السّياسيّة الرّاهنة في العراق وفلسطين ولبنان أنّ إضعاف الدّولة للمجتمع وإضعاف المجتمع للدّولة ليس إلاّ رصيدا لصالح التدخّل الخارجي إنّ المسؤوليّة الملقاة على عاتق الإسلاميين باعتبار عمقهم الشّعبي ورصيدهم السّياسي ونزوعهم الاجتهادي أكبر من الوعي الرّاهن لديهم، ممّا يدعو إلى استنفار كلّ الطّاقات والمواهب والملكات والموارد البشريّة والذّهنيّة لإهداء هذا البلد الطيّب أفضل ما يمكن أن تنتجه خبرات البشر المتراكمة. إنّ حبّ الوطن الذي استدعى في زمن الحماس الاستعداد للتّضحية بالنّفس والنّفيس لإثبات الذّات السّياسيّة لا بدّ أن يستدعي اليوم جميع الهمم إلى الاشتراك في بناء المعرفة والوعي القادرين على تشكيل الذّات الجماعيّة المنعتقة من إصر الاحتراب الدّاخلي وأغلال الارتهان الخارجي.
هذه القراءة اعتمدت كتابات و مقالات نشرت في الصحف و المواقع التونسية و العربية و الأجنبية لمجموعة من مناضلي حركة النهضة تختلف مواقعهم في الحزب و أدوارهم في العمل السياسي وهم :
الدكتور لطفي زيتون : المستشار السياسي لرئيس الحركة الشيخ راشد الغنوشي و تقلد منصبا حكوميا في حكومة الترويكا الأولى بعد الثورة
الدكتور رفيق عبد السلام : عضو المكتب التنفيذي للحركة و وزير الخارجية الأسبق في حكومة الترويكا الأولى و الثانية
الأستاذ سامي براهم : أكاديمي و باحث في الحضارات و كاتب و سجين سياسي سابق من مناضلي حركة النهضة
الاستاذ محمد خليل البرعومي : باحث في علم الإجتماع و قيادي شاب في الحركة عمل في القطاع الطلابي و مكتب الإعلام